كل عبادة من العبادات والطاعات فيها نوع من الهجرة؛ فالتوبة فيها هجرة من المعصية للطاعة، والزكاة فيها هجرة من البخل والشح إلى الكرم والبذل، والصبر والرضا فيهما هجرة من الجزع واليأس، والحج فيه هجرة إلى الله بالكلية، والصوم فيه هجرة إلى الإخلاص والتجرد هرباً من الرياء ورؤية النفس.
الهجرة هى التى نقلت الرسالة المحمدية من مرحلة الدعوة بقواعدها وقوانينها إلى مرحلة الدولة بقواعدها وقوانينها، فكل تشريعات الدولة وأحكامها وقواعدها نزلت فى القرآن المدنى بعد الهجرة.
دستور المدينة «صحيفة المدينة» فيه الحقوق لكل سكان المدينة من جميع الطوائف والأديان، ترسيخ الوحدة الوطنية بين الأوس والخزرج.. إلخ، بناء كامل لدولة جديدة عادلة.
كان عمر بن الخطاب رجل دولة عبقرياً من الطراز الأول، وهو أكثر من أرسى قواعد الدولة الإسلامية الوليدة بعد الرسول مثل إنشاء الوزارات «تدوين الدواوين»، تكوين جيش محترف، وضع قواعد المعاشات لكبار السن للمسلمين وغير المسلمين من مواطنى الدولة، وكذلك عمل معاشات للأطفال الفقراء، وكذلك المرضى بأمراض مزمنة، وهو الذى اختار الهجرة كدليل للتقويم السنوى بعدما قال له ولاة الأقاليم لا بد من تأريخ، أى خطاب، رسمى للدولة، فاقترح البعض اقتراحات رفضها جميعاً واختار موعد الهجرة بداية للتقويم ليذكّر المسلمين فى كل العصور بأن الهجرة كانت ميلاداً جديداً لأمة واعدة كانت من قبل مهزومة ومنكسرة تعبد الأصنام فإذا بها تسود الدنيا وتحطم أسطورة الفرس والروم وتقيم حضارة عالمية تقوم على الحق والعدل والحرية وقبلها عبودية الله وحرية العقيدة والعبادة.
رغم خصومة قريش للنبى، صلى الله عليه وسلم، والصدام العقائدى بينهما، فإن ذلك لم يمنع من التعامل المادى والإنسانى بينهما، حتى إن قريشاً كانت تضع أماناتها عند رسول الله حتى يعودوا من سفرهم، وكانوا يطلقون عليه الصادق الأمين، وأول ما فكر فيه رسول الله قبل تجهيزات الهجرة هو رد هذه الودائع لأصحابها وكلف بذلك سيدنا علياً بن أبى طالب.
الودائع وردها منظومة أخلاقية رائعة، قد نختلف فى الدين أو العقيدة أو الفكر ولكن ذلك لا يجعلنا لا نرد ودائع وأمانات وحقوق من يخالفونا فى الدين أو الفكر أو الاعتقاد، قد نختلف فى الدين ولكننا نتعامل فى الحياة بيعاً وشراءً وتلاقياً إنسانياً لتعمير الكون ونشر الأمان والسكينة والسلام بين أهل الأرض.
سلام عليك يا سيدى سيد الأمناء، إنه لدرس للذين يدعون للإسلام، إن أكثر ما يلوث ثوب الداعية الأبيض بعد الدماء هو أكل أموال الناس بالباطل، وعدم رد الحقوق المالية لأصحابها.
وموقف النبى من رد ودائع المشركين يدل دلالة قاطعة على بطلان قول جماعات التكفير بحل دماء وأموال غير المسلمين، فالأصل فى الدماء والأموال والأبضاع الحرمة، ولا يزول هذا الأصل إلا بدليل أنصع من شمس النهار، وما اهتمام الرسول برد أموال المشركين قبل الهجرة عن طريق على بن أبى طالب إلا للدلالة على حرمة أكل أموال الناس، كل الناس، بالباطل.
كل الكون يهاجر؛ أسماك، وطيور، وحيوانات، فالهجرة باقية بقاء الكون، فهناك هجرة لطلب الرزق، أو طلب العلم، أو نشر الدعوة والهداية، أو فراراً من محنة، أو فتنة أو مظلمة، الهجرة سنة كونية ولولاها لما سار الكون مسيرته الطبيعية.
جاءت آيات الهجرة النبوية بين آيات الجهاد فى سبيل الله لأنها فى الحقيقة نوع من البذل العظيم، وعلى كل أمة اهتدت للحق أن تضحى من أجل هذا الحق، وهذه التضحية إذا توجت بالصبر واليقين فإن من سنن الله فى خلقه أن يرد على هذه الأمة أرضها وبلادها وعزها ومجدها، لأنها ارتضت الإيمان وطناً، فسيعيد إليها وطنها وثروتها أضعافاً مضاعفة.
اتخذ الرسول، صلى الله عليه وسلم، كل الأسباب فى الهجرة، فاعتمد السرية والاستطلاع، وتأمين موكب الهجرة، فاستفرغ الرسول، صلى الله عليه وسلم، الوسع فى اتخاذ الأسباب المادية وكأنه ليس نبياً ولا مؤيداً من السماء، ثم توكل على الله توكلاً يظنه البعض أنه لم يتخذ سبباً، مثل قوله لأبى بكر: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، رداً على قول أبى بكر الصديق: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، حياة المسلم يجب أن تنقسم إلى قسمين؛ أخذ بالأسباب، وتوكل على الله، وأحدهما يكمل الآخر ويزينه ويضيف إليه. كان دليل الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر فى الهجرة عبدالله بن أريقط، وهو مسيحى الديانة، وهذا يدل على جواز الاستعانة بغير المسلمين فى أخطر الأمور ما دام أميناً وخبيراً بالأمر ودقيقاً، وقد كان الرجل عند حسن ظن النبى الكريم به فلم يفش سر هذه الرحلة الفاصلة فى تاريخ الرسالة لأحد، وقدم نموذجاً عظيماً للدقة والأمانة والاحترافية فى مهمته.
وهذا حدث كثيراً فى تاريخ المسلمين القديم والحديث؛ فقد كان هناك عشرات الآلاف من الجنود المسيحيين المصريين فى حرب أكتوبر، فضلاً عن آلاف الضباط، ومنهم قائد الفرقة الثانية مشاة الفريق عزيز غالى، وهى من الفرق التى عبرت قناة السويس وأبلت بلاءً حسناً، وكلنا يعرف قصه المقدم باقى زكى، صاحب فكرة تجريف السد الترابى على الجبهة الإسرائيلية بطلمبات المياه، وهذه الفكرة نجحت فى الحرب نجاحاً باهراً وكانت السبب فى سرعة عبور الدبابات والمدفعية لشرق القناة ومساندة قوات المشاة قبل الهجمات الإسرائيلية المضادة.