فى دار الهجرة بالمدينة المنورة استقرت «فاطمة» مع أبيها النبى. فتاة زهراء فيها من جمال أمها «خديجة» وأبيها صلى الله عليه وسلم، رشفت من حكمة النبى واتزان السيدة «خديجة» فتفردت بحكمتها البالغة فى تقييم البشر والمواقف، ولغتها الفياضة والعذبة فى التعبير عن مكنون عقلها وقلبها. منحتها حساسيتها رقة طبع وحناناً متدفقاً يشمل الجميع، وأكسبتها فى الوقت نفسه ثورة لا تهدأ إذا تجرأ أحد وجرح كبرياءها.
كان من الطبيعى أن تكون فتاة بهذه المواصفات محل إعجاب من حولها، وأن يكثر الخطَّاب على أبوابها، حاول أبوبكر ثم عمر رضى الله عنهما خطبتها، لكن النبى أبى، فقد كان يدخرها لابن عمه الذى رباه فى كنفه، على بن أبى طالب رضى الله عنه.
لا نستطيع أن نقرر أن علياً كرم الله وجهه كان يفكر فى «فاطمة»، أو كانت «فاطمة» تفكر فى «على». فمن ناحيته كان «على» متواضع الحال، لا يملك من حطام الدنيا ما يمكنه من الزواج، أما «فاطمة» فكانت صغيرة السن، كل تفكيرها فى أبيها ورعايته، بعد أن رحلت زوجته البارة، وتوفى الله ابنتيه رقية وأم كلثوم، لذلك فقد كان أمر الزواج بين علىّ وفاطمة مفاجئاً للاثنين.
فوجئ «علىّ» بالنبى صلى الله عليه وسلم يوافق على تزويجه ابنته الوحيدة والأثيرة، ولم يكن الفارس المقاتل يملك شيئاً سوى عدة القتال، والمتمثلة فى درعه التى تتكسر عليها سيوف أعدائه، باعها وباع كل ما يملكه حتى يتزوج من الفتاة الكريمة، أما «فاطمة» فقد بكت عندما زف لها أبوها نبأ موافقته على «على» زوجاً لها، وقال لها النبى لحظتها: «ما لك تبكين يا فاطمة؟ فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علماً وأفضلهم حلماً وأولهم سلماً».
تزوج الشاب النبيل من الفتاة الكريمة بعد غزوة بدر (فى العام الثانى من الهجرة) وعاشا فى بيت بسيط، يبذل فيه الزوجان كل جهدهما فى معاركة الحياة ومتطلباتها. ويجدان العناء فى ذلك، لكن سحابات المحبة والرعاية اللتين أظلهما بهما النبى صلى الله عليه وسلم كانت تخفف عنهما. رزقهما الله بطفلهما الأول الحسن بن على، ومن بعده الحسين، كما ولدت له المحسن، لكنه توفى صغيراً، بالإضافة إلى ابنتين هما زينب وأم كلثوم.
عاشت «فاطمة» بنت أشرف خلق الله كامرأة عادية، ترعى أولادها، وتهتم بزوجها، وتقوم بمهام بيتها من طحن وخبز وتنظيف وترتيب وطهو وغير ذلك، دون أن تشكو أو تتبرم، كان النبى صلى الله عليه وسلم يشفق على ابنته، لكنه أبى أن يميزها عن غيرها، فهى فى النهاية تقوم بما يتوجب عليها، كغيرها من المسلمات المتزوجات، كان يحدث أن يتشاجر الزوجان الحبيبان، فى هذه اللحظات كان النبى يتدخل فيصلح بينهما، ويسعد بعد أن تصفو أجواء البيت الذى تظله سحابات المحبة، وينعم بدفء لا تجده فى بيت آخر. زوجان محبان وأولاد وبنات يشيعون البهجة فى كل اتجاه، وجد حانٍ يرفق بالصغير والكبير، صلى الله عليه وسلم.
أحبت «فاطمة» رضى الله عنها «علياً»، وبادلها «على» حباً بحب، حتى طمعت بعض الأسر (بنى هشام بن المغيرة) فى النسب الشريف فأرادوا أن يزوجوا ابنتهم لـ«على»، هنالك غضبت «فاطمة»، وغضب لها النبى الأب، وقال قولته الشهيرة: «إنما فاطمة بضع منِّى يريبنى ما رابها».
إنه أب يحزن لحزن ابنته ويفرح لفرحها، وقد عاش هو نفسه صلى الله عليه وسلم سنين طويلة مكتفياً بخديجة رضى الله عنها من دون نساء الأرض، ولم يتزوج من غيرها، إلا بعد وفاتها رضى الله عنها، تماماً مثلما فعل على بن أبى طالب. ولم ينسَ النبى «خديجة» حين تزوج بعدها بل كان يذكرها دائماً، مثلما كانت أيضاً حال «علىّ» مع «فاطمة». فامرأة مثل السيدة خديجة أو السيدة فاطمة ترجح كفة كل منهما كفة غيرهما مهما تعددن.. المتفردة تكفى وحدها.