تقف دوائر غربية مذهولة أمام ما تعتقد أنه رأي عام عربي مساند لروسيا في موقفها من الأزمة الأوكرانية، وبينما كانت الانتقادات الغربية لبعض المواقف العربية الرسمية حيال موسكو تصدر بلغة مواربة وعلى استحياء، بات الحديث اليوم مكشوفاً وخشناً عن "دعم" بعض الدول العربية للموقف الروسي.
وإلى جانب بعض المواقف العربية الرسمية التي تبلورت في التحفظ أو التباطؤ أو الامتناع عن التصويت لصالح قرارات الإدانة الأممية لروسيا، فإن وسائل الإعلام "التقليدية" و"السوشيال ميديا" تحفل بالكثير من أنماط التأييد المباشر وغير المباشر للجانب الروسي في تلك الأزمة.
لقد رصدت مراكز البحوث الغربية وبعض وسائل الإعلام العالمية المرموقة نزوعاً عربياً نحو تأييد موسكو، خصوصاً في وسائل الإعلام الجماهيرية، ورغم المرارات الظاهرة في استكشاف هذا الموقف، فإن قدراً من التفهم ظهر لدى البعض ممن حاولوا تحليل هذه الظاهرة.
يعتقد معظم الساسة الغربيين أن ما فعله بوتين إزاء أوكرانيا عمل إجرامي عدواني لا يمكن التسامح معه أو السكوت عن نقده من أي نظام أو مجتمع عاقل، وهم يضيفون إلى ذلك ما يعتقدون أنه مفهوم بالضرورة من كون روسيا دولة تمتلك سلاحاً نووياً وقدرات عسكرية ضخمة، لكنها مع ذلك "غير حرة وتخضع لحكم استبدادي".
وعلى مدى نحو عقدين من الزمان، بذلت دوائر غربية جهوداً كبيرة في تلطيخ سمعة الحكم الروسي، وشيطنة صورة بوتين، وألصقت به الكثير من الاتهامات بشأن "التلاعب والتهديد والابتزاز والضغط" على الدول الغربية الديمقراطية، في إطار تصادم المصالح وتصارع الإرادات بين الغرب وروسيا.
وحينما اندلعت الأزمة الأوكرانية اتخذ معظم السلطات الغربية قرارات صارمة بإسكات الصوت الروسي وحجبه عن المنافذ العامة، بموازاة فرض عقوبات قياسية ربما كانت هي الأقسى والأكثر نكاية في التاريخ.
يشعر الغرب الرسمي وغير الرسمي في مجمله بأن السردية الوحيدة اللائقة عن الأزمة وعن صورة الحكم الروسي وخطورته المفترضة على البشرية والسلم الدولي هي السردية الغربية، ويظن أن تداول أي ذرائع يمكن أن تحدث توازناً ما في مقاربة الأزمة الأوكرانية ليس سوى تضليل أو خضوع لتأثير الدعاية السوداء.
ولذلك، فإن الدوائر الغربية في معظمها ترى في المواقف العربية المتوازنة إزاء طرفي النزاع مراوغة سياسية، وتحسب أن عدم الانضمام إلى جهود عزل الجانب الروسي وإضعافه انتهازية، وهي في ذلك الموقف تذكرنا تماماً بصيحة جورج بوش الابن: "من ليس معنا فهو ضدنا".
يصعب جداً إيجاد مسوغ لأي دولة تقوم بالاعتداء المسلح على دولة أخرى، ومحاولة إطاحة نظامها، وقضم أقاليم منها، وإعلان ضمها، وخلخلة الأمن الإقليمي والدولي، والإضرار بالاستقرار والسلم الدوليين.
إن ذلك المبدأ يجب أن يكون فعالاً ومعتبراً في بيئة دولية تحترم سيادات الدول وتكرس النظام الدولي من أجل صيانة الحقوق ومحاربة المعتدين، وهو أمر لطالما نادى به العرب الرسميون وغير الرسميين على مدى عقود طويلة.
ولأن هذا المبدأ بالذات لم يُحترم خلال معالجة الغرب للصراع العربي- الإسرائيلي، فإن الجانب العربي يشعر بغضاضة كبيرة ومرارة أكبر، لأنه أدرك أن عدداً مؤثراً من الدول الغربية لم تلتزمه في مقاربتها لهذا الصراع.
جزء مهم من تفسير الموقف العربي الرسمي وغير الرسمي إزاء الحرب الروسية في أوكرانيا يكمن في الشعور العربي بالمرارة لأن الغرب ترك إسرائيل تعتدي على سيادة عدد من الدول العربية، وتنقل سفارتها إلى القدس، وتضم أجزاء من الدول العربية، من دون اتخاذ قرارات رادعة لها ومن دون محاولة إعادة الحق إلى أصحابه.
وجزء آخر لا يقل أهمية يتعلق بالموقف الأمريكي إزاء العراق، واحتلاله، وإطاحة حكومته، وتفتيت لحمته، وهتك سيادته، بدعوى أنه يمتلك أسلحة دمار شامل ويرتبط بعلاقات عملية مع الإرهاب، وهو الأمر الذي لم تثبت صحته أبداً.
وجزء ثالث يتصل بالحكومات العربية التي عاينت الموقف الأمريكي من بعض النظم الوطنية التي عُرفت بعلاقاتها الاستراتيجية مع الغرب، ومع ذلك تم إسقاطها بمباركة غربية، من دون أن تكون هناك إمكانية لبناء نظم سياسية بديلة، وهو الأمر الذي ترك دولاً عربية برسم الضياع.
الموقف العربي الرسمي إزاء الحرب في أوكرانيا يعكس هذه المرارات والتجارب، كما تعتقد بعض الحكومات العربية أيضاً أن تطوير علاقات متوازنة بطرفي الصراع في تلك الأزمة أكثر تحقيقاً لمصالحها، وهو أمر قد يُمكّنها كذلك من تأدية أدوار في الوساطة ومحاولة الوصول إلى طريقة لإيجاد حل وسط متوازن يمكن أن يفكك الأزمة أو يمنع تفاقمها إلى حد الانفجار.
تجد قطاعات من الجمهور العربي، خصوصاً تلك التي تنشط على وسائط "التواصل الاجتماعي"، أن تأييدها للموقف الروسي ينقل صوتها الاحتجاجي على بعض السياسات الغربية التي دأبت على الكيل بمكاييل متعددة حيال القضايا العربية.وترى قطاعات أخرى أن الحكم الروسي الذي يبدو أكثر تجاوباً مع القضايا العربية، وأقل رغبة في التدخل في الشئون الداخلية، وأكثر شبهاً بنمط الحكم السائد في العالم العربي، وأكثر ميلاً إلى القيم المحافظة السائدة فيه، يجب آلا يُهزم هزيمة مُرة معلنة، أو يُطاح بعالمه.
سيحتاج الغرب إلى مراجعة سياساته إزاء العالم العربي قبل أن يسأل عن سبب الميل إلى الجانب الروسي، وسيكون ذلك أفضل من أن يهدد أو يتوعد الساسة العرب، الذين لا ينضمون إلى جهود عزل روسيا وإذلالها.