نكمل ما بدأناه فى المقال السابق حول رؤية المفكر الكبير خليل عبدالكريم، أحد قادة حزب التجمع، التى تشير لعدم معقولية الدولة الدينية والتى أوضحها فى كتابه الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، بل تجاوز عدم المعقولية وأصبح يرى أنهم الأكثر إجراماً على وجه الأرض، حيث أكدت فى مقالى السابق أن جماعة الإخوان وداعش والنصرة، وكل المؤمنين بالدولة الدينية من كافة الديانات السماوية، أخطر من النازيين والفاشيين والعدميين، وسأوضح السبب فى ذلك من خلال ما جاء فى كتاب «عبدالكريم».
ويرى «خليل» أن أخطر ما يميز هذه الجماعات الدينية هو إيمان أعضائها بالاصطفائية وامتلاك الحقيقة المطلقة القادمة من السماء، ويؤكد أن هذه المعتقدات يؤمن بها المدافعون عن الدولة الدينية من كل الديانات السماوية، ويوضح «عبدالكريم» معنى الاصطفائية «أى أن الله حسب وجهة نظر المدافعين عن الدولة الدينية ميز الرسول محمد الذى بلَّغ الرسالة الخاصة به واصطفى أصحابه الذين عاونوه على التبليغ ثم واصلوا حمل دعوته من بعده واصطفى أمته على سائر الأمم وتستمر هذه الاصطفائية إلى نهاية الزمان».
كما يوضح أن المؤمنين بالدولة الدينية يرون أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة ويعتقدون أن الدين الذى يعتنقونه هو وحده من سائر الأديان والعقائد الذى يملك الحقيقة المطلقة فى كافة الشئون وسائر الأمور والتى لا يأتيها الباطل وسوف تظل هى كلمة الرب الأخيرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ونورد فيما يلى النصوص المقدسة فى كل ديانه من الديانات الثلاث التى تؤكد ذلك.
ففى اليهودية حيث فى الأصول الثلاثة عشر التى وضعها النبى موسى ينص الأصل السابع: «أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة موسى كانت حقاً وأنه كان أباً للأنبياء من جاء منهم قبله ومن جاء بعده»، وهذا الأمر يوضح إلى أى قدر اصطفى موسى نفسه فى نظر اليهود، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل شمل معاونى موسى ومساعديه بل واصطفاء أمة بنى إسرائيل، وجاء فى تراثهم جملة خطيرة: «ثم كلم موسى والكهنة اللاويون جميع بنى إسرائيل قائلين أنصت واسمع يا اسرائيل اليوم صرت شعباً للرب إلهك».
أما عن الاصطفائية فى نظر المدافعين عن الدولة الدينية الكاثوليكية فى العصور الوسطى واستخدامهم لأقوال نبى الله عيسى فى غير محلها، حيث جاء فى الكتب المقدسة: «وخاطبهم يسوع أيضاً فقال أنا نور العالم، من تبعنى فلا يتخبط فى الظلام بل يكون له نور الحياة».
ومثل هذه المقدسات التى كانت تخص الأنبياء وحياتهم الأولى ظلت تُشعر المسيحيين الكاثوليك حتى نهاية العصور الوسطى بأن الله اصطفاهم عن باقى الخلق، فماذا إذاً عن امتلاك المدافعين عن الدولة الدينية المسيحية الحقيقة المطلقة، حيث جاء فى المقدسات المسيحية الأولى حسب قول المسيح: «من يسمع لكم يسمع لى ومن يرفضكم يرفضنى ومن يرفضنى يرفض الذى أرسلنى»، ثم التفت إلى التلاميذ وقال لهم على حدة: «طوبى للعيون التى ترى ما أنتم ترون فإنى أقول لكم إن كثيراً من الأنبياء والملوك تمنوا أن يروا ما تبصرون ولكنهم لم يروا، وأن يسمعوا ما تسمعون ولكنهم لم يسمعوا».
كما يلوى أتباع الدولة الدينية مفهوم كلام رسول الله النبى محمد حتى يصطفوا أنفسهم، ويشيرون إلى ما جاء على لسان النبى محمد: «أنا محمد النبى ولا نبى بعدى أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش»، ويتاجرون أيضاً بحديث النبى الذى جاء فيه: «اقتدوا بالذين بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر واهتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود».
كما يشهرون سلاحهم المجرم فى وجه من لا يؤمنون بفكر جماعة الإخوان أو النصرة وداعش ويتاجرون مرة أخرى بآيات الله التى جاء فيها: «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين».
وبالطبع هذه الآيات والنصوص المقدسة فى الأديان السماوية تم لىّ عنقها وتفسيرها بالمقاس واستخدامها فى غير محلها، فلم يكن يقصد بها الأنبياء خصوصية لأتباعهم أبد الدهر، بل كانت رسائل الله فى مواجهة الرافضين للرسالات السماوية ومحاربيها بعد أن خاطب الله الرسل.
ويعلم كل من يمتلك ذرة من التفكير أن الدولة الدينية هى دولة الأنبياء بينما ما شاهدناه على مر التاريخ هو دولة سياسية مغلفة بالدين ويتاجر أصحابها بالآيات والمقدسات وصنعوا فهماً دينياً خاطئاً ومجرماً دججوا به عقول أنصارهم، وهو الأمر الذى جعلنا نشاهد أتباع هذه الجماعات الإرهابية على مر التاريخ تقتل وتذبح وتريق دماء أى إنسان حتى أبناء الديانات الثلاث، ما دام لا يؤمن بحكمهم الفاسد والفاسق والمجرم.
وللأسف يقوم أتباعهم بهذه الجرائم عن قناعة دينية، ولهذا أصبح من الطبيعى أن يذبح إرهابى ضابط كرداسة، ويفجر نفسه فى كنيسة، ويقتل أكثر من 400 مُصلٍّ فى سيناء.
ولو عدنا للوراء سنقرأ عن دولة الدم فى العصور الوسطى التى رفضت العلم والإنسانية وكانت تمنع النساء من الخروج من المنزل وتعطى الحق للمسيحيين الكاثوليك فى قتل زوجاتهم، وتقبل صكوك الغفران، وترفض الحقيقة العلمية التى أثبتها جاليليو عندما شاهد الأرض كروية عبر التليسكوب، بل وحاربوه، وهذا الأمر ليس بعيداً عن الجرائم الصهيونية على مر التاريخ.
ولكن بنظرة متفحصة ودقيقة للتاريخ سنرى أن العدميين لم يرسوا قواعد دولة تتجاوز الحدود، ولم تكن الشعوب الأوروبية على استعداد أن تقبل جرائم النازية والفاشية باعتبارها عقيدة أو ديناً، وهو الأمر الذى سيجعل هذه الأفكار محدودة بزمن ولن تتكرر لأنها تتمحور حول عقيدة شخص أو حزب أو أيديولوجيا بينما أتباع الدولة الدينية أصبحوا يقتلون باسم الله ويحكمون باسم السماء وهو الأمر الذى فسرة الهضيبى، المرشد الثانى لجماعة الإخوان الإرهابية، واصفاً دعوة الإخوان، حيث قال: «دعوة الرسول لم تزد عليها ولم تنقص، كانت ولا تزال صراعاً بين الحق والباطل وبين الإيمان والإلحاد، بين المعروف والمنكر، وبين العقل والهوى، وبين الخلق القويم والتحلل الذميم، بين الإنسانية الفاضلة والأنانية الخاسرة».
وهنا يساوى المرشد الإرهابى بين دعوة الجماعة ودعوة الرسول، ولم لا، فهو منطلق من قول المؤسس حسن البنا الذى اشترط على إخوانه عند أخذ البيعة التجرد، ويرى أن التجرد صفة لازمة للأخ ويشرحه بقوله: «أن تخلص لفكرتك من كل ما سواها من المبادئ، لماذا؟ لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها».
فهنا نجد الإرهابى حسن البنا يشترط على الأخ أن يطرح جانباً كل المبادئ والأشخاص التى أو الذين كان قد تأثر بها أو بهم فيما مضى وألا يحمل بين جنبيه إلا فكرة الجماعة.
والشىء بالشىء يُذكر، فى منتصف القرن العشرين صك «فرانكو» الذى حكم إسبانيا منذ عام 1939 وحتى عام 1975 عملة كتب عليها أنه يحكم باسم الله على الأرض، وفى ظنى أن فرانكو آخر بقايا من تاجروا باسم الله فى أوروبا، وهكذا ستكون جماعة الإخوان وأتباعها من المتأسلمين آخر بقايا الحكم الدينى فى مصر بل فى العالم، ومازلت معتقداً أننا فى طريقنا لدولة الحداثة والتنوير، وسندخل عصر العلم قريباً طالما أصبحنا نؤمن بأهميته فى مواجهة الظلامية وأعداء الحياة.