تناقض الشعور والفكر.. عنوان مشاهد حزينة تقبع فى الذاكرة
بعد مرور 11 عاماً على ثورة 25 يناير، وبمناسبة احتفالنا السنوى بعيد الشرطة، الذى نحتفل فيه كل عام بموقف الشرطة الباسل ضد الاحتلال، والحفاظ على التراب المصرى، أشاهد منغّصات ومقاطع درامية وأحياناً أعتقد أنها سينمائية تقبع فى ذاكرتى وتمر وكأنها شريط من الصور والأحداث المتناقضة، حيث مرّت على هذه السنوات وأنا أشعر بالتناقض فى المشاعر والفكر، وكنت قد كتمت كل هذا الإرهاق النفسى سنوات طويلة وأردت أن أعبر عن كل شىء، حتى أشعر بالراحة النفسية فى إطار دردشة اعتدتها مع القراء.
ففى طفولتى كان والدى رجل شرطة، وكنت أقف فى مكتبه وأنا عمرى 6 سنوات لكى أُحيى العلم، وذلك خلال زيارتى له فى مكتبه بالإدارة العامة لمرور البحر الأحمر، حيث كان مديراً لإدارة المرور حينها، ويظل أبى وأصدقاؤه الضباط ينظرون إلىّ وأنا كلى حماس وشجن وأُردّد تحيا جمهورية مصر العربية، وكانت سعادة والدى لا وصف لها، فربما أحياناً كان يبتسم من الكوميديا التى تعبّر عن طفل صغير حروفه تائهة أثناء ترديد نشيد الواجب، ولكن فى داخله سعيد بحماسى وعشقى للوطن.
مرت السنين وشاركت فى مظاهرات لنصرة فلسطين وأنا فى الصف الثالث الإعدادى وهربت داخل المسجد بعد أن حاصر المخبرون الأطفال، ولم يتم القبض علىّ مثل بعض زملائى الذين أفرج عنهم فى اليوم ذاته، وطبعاً كانت الشرطة تحمى الأطفال من تصاعُد أى انفعالات غير محسوبة، والأهل كانوا يتفهّمون ذلك، ولكننى أشهد أن أحد المخبرين كان سعيداً جداً بهتافاتنا، وكأنه يريد أن يهتف معنا، ومن دهشته يقول لأحد الجنود: «بشويش، دول عيال وبكرة يحرروا فلسطين».
توالت الأيام وأصبحت فى المعارضة بعد أن وقّعت استمارة حزب التجمع فى عام 2007 وشاركت حينها فى الكثير من المظاهرات على سلالم نقابة الصحفيين وفى ميدان التحرير، وكنت أشارك العمال اعتصاماتهم وأدعمهم ببراءة شاب لم يقترب من العشرين، وفى أحد الأيام كنا نتظاهر أمام مبنى مجلس الشعب، وحاصرتنا الشرطة وقبضوا على زملائى فى الصف الأول والثانى، وعندما جاء الدور لكى ألقى مصير زملائى، جذبتنى الفتيات للخلف وقالوا للشرطة: «هتقبضوا عليه، وبعدها هتقبضوا علينا»، وكان مشهداً مخيفاً فأوقف عقيد الشرطة الجنود وقال لنا «فضوا المظاهرة، ولن نقبض على زميلاتكن»، وهذا المشهد عنوانه الشهامة المصرية، فرغم التعليمات لفض أى مظاهرات، إلا أن ضابط الشرطة أبى أن يُقبض على عظيمات مصر اللاتى يشاء القدر أن ينقذن هذا البلد فى 30 يونيو بعد يناير بسنوات قليلة.ولم يكن أمام هذا الضابط أى حل إلا التفاوض، وبالفعل احترمنا رغبته وانسحبنا لكى نتظاهر مرة أخرى بالقرب من ميدان التحرير، ثم انطلقنا إلى شارع طلعت حرب وانسحبت الفتيات، وتم القبض على عدد من زملائنا الذين خرجوا خلال أيام قليلة.
ظلت الأجواء مشتعلة، وعلا صوت الشباب للانفجار فى 25 يناير 2011، وخلال هذه الدعوات أعلن حزب التجمع أنه يرفض سياسات مبارك وعلى استعداد لأن يثور ضد هذا النظام، وشارك بالفعل قيادات وشباب الحزب في الثورة من اليوم الأول، وكنت حينها في إجازة بمدينة الغردقة، وشاء القدر أن تستمر المظاهرات، ولم يكن من المنطق أن نترك الساحة أمام جماعة إرهابية فعُدت للقاهرة يوم 27 يناير مساءً، وشاركت فى المظاهرات من مسجد النور بالعباسية وفجأة بعد أن انتهت الصلاة سمعت بجوارى شاباً يهتف إسلامية إسلامية، وكأن جماعته حينها قررت أن تصل إلى الحكم من خلال استغلال الثورة، ولهذا انفعلت وقُمت بالرد عليه «اشتراكية اشتراكية»، وكانت معركة بين التخلف والتنوير، وربما أيضاً بين اليمين الرأسمالى العميل والخائن لشعبه وبين العدالة الاجتماعية.
وتستمر الملحمة، حيث نخرج للتظاهر من مسجد النور ونهرب بأعجوبة من جنازير البلطجية، ونستقبل الغاز لأول مرة بهذه الكثافة، ورغم محاولة نشر العداء ضد الشرطة، جنوداً وضباطاً، إلا أن الشعور الوطنى وذكريات الطفولة تحركنى بقوة، فبعد ساعة قام شباب الإخوان بإلقاء الطوب على قسم شرطة خلال مرورنا برمسيس، وحينها قمت أنا وزملائى الذين كنت أعرف بعضهم والآخرون الذين لديهم نفس الشعور الوطنى، لنلتف حول باب القسم ونرفض الهجوم على إخواننا من الضباط والجنود وكثر عددنا، وتلاقت العيون، ووصلت الرسالة ومفادها «أنتم حماة هذا البلد ومقهورون مثلنا».
ومرت الساعات إلى أن سقطت الشرطة تقريباً فى الرابعة مساءً من يوم 28 يناير، وعند وصولى بالقرب من شارع طلعت حرب، فوجئت بضابط وتشكيل من الجنود محاصرين من المواطنين، فأخذت على عاتقى أن أنقذهم، وقلت حينها لبعض الشباب الغاضب، هؤلاء يتلقون التعليمات وعِشنا سنوات فى أمان بفضلهم، وصاح بعض المواطنين وأولاد البلد الرجالة قائلين: «محدش هيقرب منهم»، والتقط الملازم أول قائد الجنود أنفاسه مرة أخرى بعد أن شاهدته مذعوراً، فلم يكن يتصور يوماً أن يحاصر مواطن مصرى رجل شرطة وجنوداً أبطالاً ظلوا فى حرب ضد الإرهاب سنوات طويلة، وما زالوا على استعداد لأن يضحوا بأنفسهم من أجل مصر، ولكنها نار الفتنة وسنوات من الفساد والاستبداد فى عصر مبارك ومحاولات غير بريئة وخائنة للوقيعة بين نسور مصر وشعبهم.
وفى مساء اليوم ذاته كنت فى قلب ميدان التحرير بعد أن انسحبت الشرطة ونزلت أول دبابة لميدان التحرير، وقمت بالقفز حينها فوق الدبابة وأخذت ضابط الجيش بالأحضان والقبلات، حيث لأول مرة أشاهد دبابات الجيش مكتوباً عليها يسقط حسنى مبارك، ثم صعدت إلى مقر الحزب فى وسط البلد لأجد زملائى أعضاء وقيادات الحزب ينقذون جنود الشرطة المصابين فى المطاردات، وكلما أنظر إليهم أشعر بغصة وحالة من التناقض، وأسأل نفسى هل ما يحدث ينقذ مصر أم يمزقها ويقسمها، وحمدت الله حينها حيث استطعنا أن ننقذ أغلب الجنود، ودخلت سيارة الإسعاف فى الشارع المواجه للحزب، لكى تنقذ الجنود وتسعفهم بشكل احترافى.
وبعد أن اطمأن قلبى عُدت لكى أنام فى شقة خالتى بعباس العقاد، حيث كان من المستحيل أن أعود إلى البدرشين محل إقامتى، لاسيما أننى لم أقل لأمى إننى فى القاهرة، وذلك بالاتفاق مع كل من حولى، حتى لا تموت خوفاً، وخلال عودتى سيراً على الأقدام شاهدت كثيراً من المطاردات فى الشوارع وطلقات نار لا أعرف مصدرها وفجأة وعند اقترابى من البيت شاهدت قسم مدينة نصر والإرهابيين يهجمون على من فى داخله ويخرج منه لهيب نار، وحينها كدت أن أقع مغشياً علىّ، حيث جاء فى بالى أخى وشقيقى الأكبر المقدم محمد عصام، وكان نائب مأمور قسم بئر العبد بشمال سيناء، وقلت فى داخلى فإذا كان قسم مدينة نصر يحدث فيه كل هذا، فماذا عن أخى فى هذه المنطقة الحدودية التى يقبع فيها الإرهاب لسنوات.
جذبنى أصدقائى ومنهم عبدالرحمن نبهان لكى نتحرك بشكل سريع، خوفاً من طلقات الرصاص، التى لا نعرف مصدرها، وعُدت لخالتى وحاولت الاتصال بأخى، ولكن كل الخطوط مقطوعة ولا أعرف ماذا أصابه.
ومرّت الأيام والسنوات وظل أخى ضابطاً فى العريش حتى نهاية عام 2012، وكلما يهاجم الإخوان شارع محمد محمود أو وزارة الداخلية، أقترب من المظاهرات مردّداً هتافات تعبر عن غضبى من الأوضاع وفى الوقت ذاته أكون غير قادر على أن أقترب من ضباط مصر، وأن أكون سبباً فى أذى من قدّموا أرواحهم على مر السنين لحماية هذا البلد، فأنسحب فجأة وأعود لمقر حزب التجمع.مرت هذه السنوات وحالة من التناقض فى المشاعر والسلوك والوعى وندم على هتافى لأول مرة ضد الجيش المصرى عندما اعتقدنا أن المشير طنطاوى تحالف مع الإخوان، وفهمنا فى وقت متأخر بعد ذلك كيف لم يكن أمام الجيش سوى احترام الصندوق والديمقراطية، ولكن فى مكنونه غضب وصبر وقناعة بأن الشعب سيثور مجدّداً، وحينها سيكون الجيش قائداً لثورتنا، والشرطة داعمة لإرادة الشعب، وهذا ما حدث فى 30 يونيو و3 يوليو.
واتصل بى أصدقائى الصحفيون يوم 3 يوليو 2013 وقُلت وكلى فرح وسعادة «اليوم الشعب والجيش والشرطة إيد واحدة لبناء مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة»، وبعد مرور كل هذه السنوات أقول لأسر الشهداء من الجيش والشرطة عدونا واحد ولن ينساق الساسة أو الثوار أو الشباب ضد مؤسسات هذا البلد مرة أخرى ولقد وعينا الدرس، وأعنى بمن وعى الدرس نحن جميعاً، كشعب ومؤسسات، ومن لم يعِ فلا يلومن إلا نفسه ولن ترحمه حضارة آلاف السنين.
وأخيراً طالما هزمنا الجماعة الإرهابية التى كانت تسحر عقول المصريين باسم الدين وما له من أهمية فى وجدان هذا الشعب، فلن تستطيع أى جماعة أن تحدث وقيعة بين المصريين وشرطتهم، وليظل نسور مصر دوماً يحمون الوطن من الأعداء، وكلى تفاؤل أن مصر فى طريقها لبناء جمهورية جديدة عمادها احترام القانون والمساواة بين أبناء الشعب وتجاوز كل حماقات الماضى، ويجب أن نكون واثقين أن قاعدة هذه الجمهورية دماء ضباط مصر وجنودها ومصابيها الذين ضربوا أروع الأمثلة فى التضحية والفداء.