كانت مصر تستحق قناة تليفزيونية للأفلام الوثائقية منذ زمن طويل. وسبب الاستحقاق هو أن النسبة الأكبر من المؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وبالطبع الثقافية كان مصدرها مصر، وهذا تاريخ وجغرافيا وليس «كلام وخلاص».
شعبياً، ظلت فكرة الأفلام الوثائقية بعيدة عن المصريين لأسباب كثيرة. فمن جهة، لم تكن الفكرة شائعة، وحين بدأت أفلام وثائقية تطل علينا بين الحين والآخر، كانت أقرب ما تكون إلى كتب المدرسة ذات المناهج الجامدة التى لا حياة أو شغف أو نكهة فيها، فقط معلومات مرصوصة وصور أو لقطات متواترة. المؤكد أن تقنيات العقود السابقة لم تتح للجميع الخروج بفيلم وثائقى قصير أو طويل يحمل عناصر الجذب اللازمة، كما أن ثقافة المعرفة كانت مختلفة، والرغبة فى الاطلاع على الأحداث وما وراء الأحداث والظواهر وسردها وتحليلها أيضاً لم تكن على ما هى عليه اليوم.
وأشير إلى أن تاريخ الأفلام الوثائقية لا يعود إلى الأمس أو أمس الأول، بل هو أقدم من ذلك بكثير. يعود إلى ما قبل بدايات القرن العشرين بقليل، وقتها كانت تسمى أفلاماً واقعية، فقد كانت اللقطات عبارة عن مقتطفات قصيرة من أحداث فعلية حدثت على أرض الواقع. وتختلف الروايات حول البداية الحقيقية للوثائقيات، فهناك من يقول إن البداية الحقيقية كانت فى روسيا فى عام 1920، وتحديداً على يد شاعر شاب وصانع أفلام اسمه دزيجا فيرتوف والذى صنع سلسلة من الأفلام الإخبارية التعليمية خلال الثورة الروسية. ويعتبر البعض الآخر المخرج الأمريكى روبرت فلاهيرتى رائد الوثائقيات الحقيقى بفيلمه عن عائلة من عائلات الإسكيمو فى عام 1922. وأول من استخدم لفظ «وثائقى» كان المخرج الأسكتلندى جون جريرسيون. وبزغ نجم الوثائقيات كأداة بروباجاندا وقت الحرب العالمية الثانية، استخدمتها دول عدة، أبرزها ألمانيا وأمريكا وبريطانيا، وأثبتت فاعلية كبيرة.
عربياً، حين أطلت علينا قنوات إقليمية بوجه جديد ومختلف للأفلام الوثائقية -سواء العربية أو المترجمة- قبل ما يزيد على عقد ونصف، أدرك الجميع أن فى الوثائقيات معرفة ووعياً وثقافة. ولكن الوثائقيات -شأنها شأن كل مصدر للمعرفة- قابلة لأن تكون مسيّسة أو موجّهة أو تحوى السم فى العسل، ليس فقط فى القنوات الإقليمية المذكورة، ولكن فى كل وسيلة أو منصة إعلامية. والحكاية كلها تكمن فى مدى الشطارة والحذاقة والحنكة فى التوجيه والتسييس بدون أن يشعر «الزبون» المستهدف.
وقد أخبرتنا أحداث السنوات القليلة الماضية، لا سيما العقد الماضى، أن الإعلام بأجنحته المختلفة، سواء التقليدى أو المحلى أو الإقليمى أو العالمى أو الـ«سوشيال ميديا» بكل ما تحتويه من صنوف وأشكال وأنواع أغلبها غير معروف المصدر أو الهوى أو الهدف، قادر على تشكيل الوجدان وتوجيه الرأى العام، لا فكرياً ومعرفياً وثقافياً فقط، ولكن سياسياً وفعلياً على أرض الواقع.
الواقع أيضاً يخبرنا بأن مصر أصبحت لديها قناة وثائقية تنبئ بدايتها بحضور قوى وأثر بالغ وتثقيف ووعى ومعرفة نحن فى أمسّ الحاجة إليها. فالمعرفة والثقافة وتنقيح وتنقية ما لحق بنا من أتربة معرفية وصدأ ثقافى على مدار سنوات التجريف الثقافى والمد الدينى المغلوط الذى هيمن على الثقافة وكاد يقضى عليها بفكر تغلغل إلى أدمغة الصغار والكبار، وما زال.
زوال الأتربة وإزاحة الصدأ وتنقية الأدمغة لن تحدث بين يوم وليلة، لكنها عملية مستمرة. وإذا كانت الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى وتنقيته مما لحق به من شوائب عديدة قوبلت بمقاومة عنيفة وامتناع عنيد، فإن القوى الناعمة التى نتحدث عنها منذ سنوات طويلة قادرة على التنقية والتجديد بطريقة غير مباشرة.
وأعتقد وأتمنى وآمل أن تكون القناة الوثائقية المصرية إحدى نقاط الارتكاز فى الصحوة الثقافية التطهيرية والمعرفية، وهى والقائمون عليها قادرون على ذلك. فمن يفكر ويقرأ ويبحث ويحلل ويشرح ويسرد يتمتع بمناعة قوية أمام قوى الظلام واستلاب العقول سواء بسلاح الدين الذى يدعى أنه وحده المالك له، أو بسلاح السياسة أو الاقتصاد أو غيرها من الأسلحة.
وما نجحت فيه جماعات الإسلام السياسى المختلفة من تسلل إلى عقول المصريين عبر «قواها الناعمة» الخاصة بها من احتكار للدين وهيمنة على التفسير وتقديم نسخة مشوهة قوامها العنف والفوقية وإطارها الحامى لها تكفير التفكير، والذى تحول اليوم إلى أسلوب حياة لدى كثيرين يورثونه لصغارهم لن يتم تصحيحه وتعديله وتقويمه إلا بقوى ثقافية ومعرفية تبتعد عن الوعظ وتنأى بنفسها عن الإرشاد وتقدم كبسولات تمتزج فيها المعلومة بالتاريخ بالسياسة بالجغرافيا بالمعرفة الموثقة. وهذه هى إحدى مهام القناة الوثائقية المصرية الجديدة.
والحقيقة أن مهامها كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إعادة الاعتبار للهوية المصرية، ورد الكرامة للثقافة المصرية من فنون وآداب وأفكار وتنوير والقائمة طويلة والآمال كثيرة والفرحة كبيرة بـ«الوثائقية» المصرية. ونحن المصريين فى انتظار التنوير والتثقيف والعودة لما نستحقه.