كنت في لقاء مع الفيلسوف الكبير دكتور مراد وهبة منذ 5 سنوات تقريبًا وتحدثنا عن الفلسفة وأسباب الجمود الفكري الظاهر في الوطن العربي وكيف تسلل الإخوان للحكم، وفجأة استوقفني ليسالني سؤالًا مفاجئا وقال بنظرة حادة «هل تعرف ما معني الفلسفة» فقلت له الحكمة يا أستاذي، فرد قائلًا، «هذا هو التعريف الشائع ولكني أفضل كلمة اندهش»، وظل بعدها يسترسل قائلًا: «لكي تصبح فيلسوفًا أو إنسان تنويري وقادر على التفكير بشكل علمي عليك أن تندهش دومًا وتنتقد كل شيء حولك وتحلل أسباب حدوثه حينها ستعرف أسباب حالة هذا الجمود الفكري وأسباب وصول الإخوان للحكم».
وفي نهاية اللقاء، اطلعت من خلاله على دخوله في حوار مع مؤسسة الأزهر والإفتاء والأوقاف، والحوار المستمر معهم، وقلت له كيف لعلماني مثلك يؤمن بفصل الدين عن الدولة، استطاع ان يقنع رجال الدين ـو التي يقدسها العوام وهو الأمر المرفوض حسب كتاباتك وتطلعك وأمنيتك في علمنة الدولة أن يدخلوا معك في حوار بهذا الرقي وبهذا الود، فرد قائلًا: «الحوار مع رجال الدين مفيد وإيجابي في تطوير الأفكار والمفاهيم وسيسهم في بناء جسر من التواصل الدائم مع المفكرين المصريين وسيكون له تأثير إيجابي على المجتمع»، ثم توقف لحظة وقال لي: «لا تتخيل أينما وصلت لدرجة من المعرفة والثقافة أنك قادر على الدخول في صدام مع مؤسسة فما بالك أن تدخل في صدام مع الأزهر أو المؤسسات الدينية بشكل عام والتي لها اتباع ومريدين في كل شارع وحارة ولكننا ندخل في عملية نضال واسعة ضد الإرهابيين الذين يمارسون القتل والعنف وكل الموبقات باسم الدين».
وللحقيقة فهذا اللقاء ساهم في تحولي من شاب تنويري يبالغ أحيانًا في الهجوم إلى شخص مصرّ كل الإصرار على الدخول في حوار وحوار مرتب وهادئ ويسبقه المحبة والإخلاص، ولهذا أدعو فضيلة الإمام شيخ الأزهر ووزير الأوقاف وكذلك فضيلة المفتي وكل المشايخ في هذه البلد الي النقاش حول فكرة اري انها سيكون لها تأثير إيجابي علي عملية تطوير الخطاب الديني.
باختصار شديد، ما زلت أعتقد أن أي إنسان لابد وان يفكر بشكل علمي حتي يستطيع ان يطور من مجتمعه وعملية التفكير هي المفتاح الحقيقي للتطوير، ولان مشايخنا الذين تخرجوا من مؤسسة الازهر وعملوا في دار الإفتاء وفي وزارة الأوقاف فكروا وبحثوا وتعلموا فاصبحوا وطنيين وعاشقين لبلدهم، وعلمت من وزير الأوقاف أن 6000 خطيب وإمام حصلوا على ماجيستير ودكتوراه في العلوم الإنسانية من جامعات مصر المختلفة، ولهذا أطرح على فضيلة الإمام شيخ الازهر ووزير الأوقاف اقتراح ورجاء، حيث أنني في الفترة الأخيرة علمت من زملائي وأصدقائي أن هناك الآلاف من الشعراء والممثلين الموهوبين وأصحاب الأصوات الجميلة والنحاتين والفنانين التشكيليين يدرسون داخل مدارس الأزهر ولكنهم لا يمارسون هواياتهم الفنية داخل مدارس الأزهر ولا يوجد آلات موسيقية لإنتاج الأغاني العاطفية والوطنية والحماسية والدينية أيضًا داخل فناء المدارس والجامعات، كما أن جامعات الأزهر المختلفة لا تسمح بتوفير أماكن لتعليم الرسم وصناعة التماثيل القيمة التي تحاكي تراثنا وتاريخنا، كما لم يتمّ تنظيم امسيات شعرية لمختلف الشعراء ولا حتى حفلات غنائية لكبار المطربين داخل فناء جامعات الأزهر.
وللحقيقة، فليس معقولًا أن نتحدث عن تطوير الخطاب الديني من خلال دعوة عميقة للتفكير وحرية الابداع، ونطالب أبناء مصر لأن يتدبروا ويفكروا وهم ليسوا أحرارًا أصلا في ممارسة هواياتهم الفنية والثقافية، ولا يسمح لهم بالتعبير عن هواياتهم الفنية المكبوتة، والتي يحاول البعض تحريمها دون مبرر وبادعاء كاذب.
ولهذا اقترح التنسيق بين وزارة الثقافة ونقابة الفنانين والموسيقيين والمؤسسات الدينية لاكتشاف المواهب في مختلف الفنون ومنها «الرسم والتمثيل والغناء والشعر والنحت والتلحين»، وإقامة مختلف الحفلات والامسيات الشعرية والمسابقات لاكتشاف الرسامين والمطربين والمثقفين وكتاب مقالات الراي في مختلف القضايا بدون سقف، فهذه المؤسسة هي من أخرجت لنا الموسيقار محمد عبدالوهاب والمطرب المميز مدحت صالح والمطرب محمد عبدالمطلب والفنان الفلسطيني والذي نعيش على أفلامه وشكلت جزء من وجداننا عبدالسلام النابلسي وكذلك المطرب الشعبي محبوب الشباب «حكيم».
وحسب فهمي أرى أن المؤسسات التعليمية الأزهرية وخطباء وأئمة المساجد ليسوا أفرادا في مؤسسات الرهبنة مثلما نرى في الدولة الكنسية في العصور الوسطي، حيث أن الراهب يموت ويصلوا عليه ويحرم من كل ملذات الحياة، بينما الدين الإسلامي لا يعرف رجال الدين حيث لا ممثل للخالق على هذه الأرض سوى رسوله الكريم بينما كل من عاش بعد وفاة رسول الله، فهم مجرد بشر يفسرون الدين حسب فهمهم ووجهة نظرهم ولهذا فالقرآن مازال حمال أوجه مثلما قال علي، ولهذا أرجو أن لا نكون أوصياء على آلاف الشباب الذين يتعلمون في الأزهر ويخطبون في المساجد ويعطون الدروس الدينية للمواطنين في القرى والنجوع وأن ندعوهم دومًا للحرية.
ولعلنا نعلم أن الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي عندما عاد من الغرب كان من أوائل الليبراليين المصريين وكان إمامًا تنويريا عظيما وهو أول من فسر كلمة حرية ودعا لأن تكون العبادة علاقة بين الإنسان وربه، ولا وصاية على الإنسان من أحد، وللحديث بقية في المقال القادم.