توقفنا في المقال السابق عند وصولنا إلى القوصية مع واحد من أهم صحفيى العالم وهو روبرت فيسك والحقوقى البارز الراحل حافظ أبوسعدة.. كانت خطة العمل الصحفية والحقوقية تقضى باستطلاع آراء قادة العمل الشعبى فى أحداث الإرهاب المشتعلة على آخرها وقتها فى منتصف التسعينات إلى حد استشهاد قيادات كبيرة روت أرض الوطن بدمائها الطاهرة ولم ينجُ أحد من جرائم الإرهاب الذى راح يضرب فى كل مكان.. مدنيين وبنوكاً ومدارس وكنائس.. كان الجميع عندهم خارجاً عن الملة ودمه مستحل!
التقينا، وفى زمن قياسى تطلبته رحلة «فيسك»، كلاً من صلاح فراج أحد رموز اليسار المصرى وكان وقتها أميناً لحزب التجمع ونقيباً سابقاً لمحاميى أسيوط وكذلك السيد أسامة المؤيد وكان قائماً بأعمال أمين حزب العمل بالمحافظة، وكذلك السيد حسن جاد الحق المحامى نقيب المحامين بأسيوط، والدكتور أحمد ياسين نصار الأستاذ بكلية الطب وأمين الحزب الناصرى والنائب السابق الدكتور فاروق الميرى، وكان أحد النواب الأقباط القلائل بمجلس الشعب وقتها، وشخصيات أخرى كان على رأسها السياسى البارز النائب السابق جمال أسعد عبدالملاك بما يعكس وزنه السياسى حتى لو لم يكن مسئولاً قيادياً فى أى حزب!
توقفنا عند المفاجأة التى شاهدناها فى مدينته القوصية.. فالنائب الذى تصفه عديد من وسائل الإعلام بـ«النائب القبطى» شعبيته طاغية عند المسلمين!
كان هذا وقتها وفى ظل المناخ القائم حينئذ أمراً فريداً ومدهشاً.. لم يكن الرجل مليارديراً ولا مليونيراً كبيراً كى يستطيع الإنفاق لصنع شعبية ما حتى لو حقيقية لكن يكون العمل الخيرى المستند إلى المال سببه الأول.. ولم يكن الرجل أيضاً إقطاعياً كبيراً ترتبط عائلته بمصالح مع عائلات أخرى يستطيع التنسيق معها وضمان ولائها مع أبنائها وعمالها.. ولا كان أيضاً متنفذاً كبيراً فى أى من مفاصل الدولة المصرية يقدر على توفير فرص عمل للناس أو حمايتهم من بيروقراطية قاتلة تعرض مصالحهم وأوراقهم الرسمية لمشاكل كثيرة.. ولذلك كان السؤال ونحن بين جماهير الرجل ممن يريدون خدمتنا وتوصيلنا إلى بيته مع محاولات تقديم واجب الضيافة لنا بأى شكل باعتبارنا ضيوفاً على الرجل الذى يحبونه ويعتبرونه نائبهم الشرعى رغم عدم وجوده وقتها فى البرلمان!كان المشهد مؤثراً.. صحيح الاستماع إلى تحليل الرجل ورؤيته للتصدى للإرهاب مهم والأهم أسبابه وجذوره وطرق القضاء عليه وتجفيف منابعه لكن الأجمل تلك الحالة التى صنعها هذا الرجل.. لقد كنا عملياً أمام هزيمة للإرهاب دون قتال أو معارك.. هؤلاء مسلمون يقبلون ويوافقون ويرحبون ويسعون لأن يكون مسيحى نائباً لهم وعنهم! وأين؟! فى قلب صعيد مصر وليس فى أحد أحياء القاهرة أو الإسكندرية! وأين؟! مدينة أغلبيتها مسلمة ولا تقف عند خيارات صعبة بين أغلبية مشكوك فيها! وأين؟! فى مدينة بها قيادات مسلمة عديدة! كانت الحالة رائعة ومدهشة عبّرت عن مصر الحقيقية وغيّرت الكثير من الانطباع المهيمن على عقول الكثيرين من أن ما يجرى يجرى بين المصريين أنفسهم، بينما الحقيقة التى أثبتتها الجولة وزيارة جمال أسعد -مع حفظ الألقاب- أنها حرب بين كل المصريين وغيرهم من خوارج العصر الخارجين عن كل قيمة دينية ووطنية!
وهذا هو السبب فى هذين المقالين عن رجل قدم للوطن الكثير.. ويزحف بعمره المديد -متعه الله بكل صحة وعافية- وأطال الله فى عمره إلى الثمانين.. ثم سجل تجربته فى كتاب صدر قبل أسابيع لم يزل محل جدل ونقاش واحتفاء وترحيب وتساؤلات عن مسيرة سياسى عايش عدة عهود وحكام وظروف بها رؤساء مؤقتون كما فى حالة الدكتور صوفى أبوطالب والمستشار عدلى منصور.. عمل محاسباً بأحد البنوك ومشاركاً فى تنظيمات سياسية وطنية، منظمة الشباب وغيرها، ثم قيادياً فى بعض الأحزاب «التجمع والعمل» ونائباً ثلاث مرات لم تكتمل ولم يكمل دورة واحدة منها!
الكتاب «أيامي».. الذي يتناول أسرار مهمة داخل البرلمان وخارجه.. مع أسماء لعبت أدواراً مهمة فى تاريخ مصر بغض النظر عن الموقف منهم.. فتحى سرور وزكى بدر ومحمد عبدالحليم موسى وكمال الشاذلى وإبراهيم شكرى وغيرهم وغيرهم.. وسجل الرجل شهادته على أحداث مهمة هى غزيرة إلى حد صعوبة تناولها والتوقف عندها واحداً واحداً.. والمدهش أن أسعد سجلها مكتوبة كلها بطريقته فى الحكى والكلام وكأنه يروى لكل قارئ منفرداً ببساطته المعهودة وبما يجعلك تصدقه خصوصاً أن كثيراً من الأحداث قريبة العهد بالناس وشهودها أو بعضهم على قيد الحياة.. وبعضها مضابط جلساته أيضاً موجودة شاهدة على مواقف الجميع.نقف أمام رجل عاش مصرياً عربياً حتى النخاع.. لم ينزلق لأى انزلاقات طائفية أو لأى تعصب بخلاف الانتماء السياسى وهذا غاية التحضر لأنه يعرض على الناس رؤيته لحاضرهم ومستقبلهم!جمال أسعد مثال نريده فى كل مكان بمصرنا الجديدة التى نريدها ونبنيها وسنبنيها.