البشر أمزجة.. والأمزجة ألوان وأشكال.. هناك من يكون مزاجه في الأكل والشرب، وهناك من يكون مزاجه في الكيوف، وهناك من يكون مزاجه في أشياء أخر.
والعاقل من ينجو من الأسر، ويجتهد في ترويض نفسه إذا وجدها متعلقة بشيء، ويحاول أن يعالج شأنه بالاتزان والوسطية.بعض البشر يجدون متعة خاصة في الطعام، فيفرطون فيه.
الطعام بالنسبة لعشاقه مصدر متعة، وقد يكون بالنسبة للبعض الآخر وسيلة للخروج من حالة الاكتئاب، حين يقعون فيها، فيستغرقون في الأكل بنهم، وكأنهم يأكلون في آخر زادهم، كما يقول المثل المصري.
ولعلك تدرك العلاقة بن التخمة والخمول العقلي، فالجسد حين يثقل بالطعام "عمال على بطال"، وتمتلىء المعدة فإن العقل يكسل ويخمل.
في التاريخ تجد شخصية مثل الوالي سعيد باشا الحاكم الرابع من حكام الأسرة العلوية من الشخصيات التي تميزت بقدر كبير من النهم إلى الطعام، وكان -مثل فقراء المصريين- مغرما بالنشويات، فامتاز في طفولته ومراهقته بالبدانة المفرطة، وهو أمر لم يعجب أباه الوالي محمد علي، فوجهه إلى لعب الرياضة، وعهد به إلى فرديناند ديلسيبس الدبلوماسي الفرنسي الشهير، كما تحكي "سهير حلمي" في كتابها "أسرة محمد علي"، ليتولى ترييضه، فكان يعلمه ركوب الخيل، وغير ذلك من رياضات تساعده على "التخسيس"، وكان الفرنسي يدرك "مزاج" الأمير الصغير، وأراد أن يستميله نحوه.
وسلك طريقه إلى عقله وقلبه عبر معدته، فكان يتحفه بين حين وآخر بطبق مكرونة، يلتهمه الأمير بشراهة.يقول البعض أن "سعيداً" وافق على مشروع حفر قناة السويس بطبق مكرونة، وحقيقة الأمر أن المسألة لم تكن كذلك، فقد تناول "سعيد" بعد صعوده إلى سدة الولاية المشروع من "ديلسبس" وعرضه على عدد من أفراد بطانته، ووافق عليه بناء على رأيهم.
فمحبته للمكرونة كانت قبل الموافقة على حفر القناة وبعدها، وحتى قبل أن يعرف "ديلسبس".
وقد أثبتت حقائق التاريخ أن المشروع عاد بالفائدة على مصر، وكل ما عيب على "سعيد" يتعلق بالامتيازات التي منحها للشركة التي تولت عملية الحفر، ثم إدارة القناة، ووضعت كل شىء في يد الفرنسيين.
المهم أن مزاج الوالي سعيد في الطعام كان مصدره اضطراب في مزاجه النفسي، فقد امتاز كما يصف المؤرخ "عبد الرحمن الرافعي" بالعديد من السمات الجيدة مثل طيبة القلب والتسامح والميل إلى الخير، لكنه في المقابل كان سريع الغضب، متردد، لا يستقر على شىء.. ما يعني أن مزاج الرجل كان متقلبا، وربما كان ذلك هو السر في ميله نحو تعاطي الطعام بكميات كبيرة، وربما يكون الملك فاروق قد ورثه في هذه التركيبة المزاجية المتقلبة التي كانت تجد سلواها في الطعام.
والعجيب أن الوالي سعيد مات وهو في أوائل الأربعينات (42 عاماً) متأثراً بعاداته الغذائية السيئة التي أهلكت بدنه، تماماً مثلما مات فاروق في الخامسة والأربعين من عمره.