الدكتور محمد مهنا يكتب: كن حليماً
د. محمد مهنا
إن الله -عز وجل- يحب من عبده أن يراه على كل حالة خير تقربه من خالقه وتجعله مؤهلاً لينال رضا خالقه عنه فى الدنيا والآخرة، ومن أعظم هذه الخصال وأنبل هذه الصفات التى يحبها الله -عز وجل- فى عباده صفة الحلم والصفح عن الغير، فورد فى الحديث الشريف ما قاله النبى لأشج بن عبد قيس، إذ قال له: «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة»، والله -عز وجل- من أسمائه الحسنى الحليم، فكل من يحلم ويصفح عن غيره فما هو إلا تجلِّى أنوار الحق -جل وعلا- عليه بهذا الاسم.
ففى زمن كثرت مجرياته وأحداثه حتى كاد الناس لا يلفظون أنفاسهم من سرعة تلك الأحداث، ونسى الناس الفضل بينهم، وتعالت أصوات طلب النجاة لمن وقع فى براثن هذه الدنيا ولم يعتصم بعاصم، يلوح فى الأفق بريق أمل وشعاع نور يحمل قارب النجاة لمن هوى فى بحر الأخلاق المتدنية اللجى، الذى سيمته ظلمات بعضها فوق بعض، يلوح نور المصطفى معلناً نجاة من اعتصم به وتمسك بحبل أخلاقه وجميل صفاته، ولمَ لا فمن اعتصم بالجناب المحمدى سلك وملك وتمسك واستمسك.
والحلم أحد هذه الأخلاق النبوية الشريفة التى سجلها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أنه اتصف بها، بل كانت هذه الصفة مفاتح الخير والبركة، فالحلم ضبط النفس عند الغضب، وكفها عن مقابلة الإساءة بالإساءة، مع تحكيم المسلم دينه وعقله عند إيذاء الآخرين له، مع قدرته على رد الإيذاء بمثله، قول الإمام أبى حامد الغزالى فى بيان معنى الحليم: «الحليم هو الذى يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يستفزه غضب، ولا يعتريه غيظ، ولا يحمله على المشاركة إلى الانتقام، مع غاية الاقتدار».
والحلم من خلق الأنبياء، فلقد سجل القرآن الكريم ذلك الخلق عنهم، فقال تعالى فى وصف نبيه إبراهيم: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ»، وقال فى حق نبيه شعيب: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»، ولقد كان الحلم والصفح عن الغير دأب النبى وشيمته على الدوام، فعن أم المؤمنين عائشة أنها قالت للنبى: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟». قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسى، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادانى، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فنادانى ملك الجبال فسلَّم على ثم قال: يا محمد فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبى: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً».
وقال لقمان الحكيم: «ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه»، فيجب على كل محب أراد أن يحظى بعناية النبى ورفقته الشريفة أن يتخلق بخلقه وأن يجاهد أن يكون له نصيب من الإرث المحمدى وليس ذلك الإرث مال ولا ضيعات وإنما هى أخلاقه وشمائله وصفاته السنية، فمن فتح له باب التخلق بهذا الخلق العظيم فليدخل ولا يتوانى فى لحوق هذا الركب الأنور، كما قال ابن عطاء الله: «إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبالِ معها إن قل عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك».
* رئيس مجلس أمناء البيت المحمدى للتصوف