الدكتور يوسف عامر يكتب: يقظةُ الرُّوح
د. يوسف عامر
كلما أظلَّنا هذا الشهر المبارك تذكَّرْنا هذه الأحاديث النبوية النورانية التى قالها صلى الله عليه وسلم فى بيان فضل شهر رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قام رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» [متفق عليه]، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «مَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» [متفق عليه].
والمعنى الإجمالى لهذه الأحاديث واضح لكل مَن يسمعها، وهذا من آيات فصاحة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلاغته، نعم... إنه جانب يستحق الدراسة الجادة، فالكلام، رغم فصاحته وبلاغته وإيجازه، واضح المعنى، جلىُّ الدلالة... وهو أمر تتطلع إليه أعين أرباب الفصاحة والبيان، وليس مُرادُنا هنا الإشارة لهذا، ولكنه أمر جدير بالتنويه به والتنبيه عليه.
والذى نريد أنْ نقف أمامه هنا هو كلمتان تكرر ذكْرُهما فى الأحاديث الثلاثة، وهما كلمتا (إيماناً واحتساباً)، وهما كلمتان نبويتان مع كثرة تكرُّرهما على الأسماع لم ينتبه لدقيق معناهما كثير من الناس، وكثيراً ما يغيب مع كثرة السماع الانتباه للمعنى الدقيق.
والإيمان معناه معروف، وهو التصديق، ومعنى «مَن صام رمضان إيماناً» أى: من صامه وهو مُصدِّق معتقد فرضية الصيام التى تقتضى تعظيم هذا الشهر، وتعظيم شأن صيامه لأنه فريضة فرضها الله تعالى، وألا يصوم خوفاً من الناس واستحياءً منهم، فهذه الكلمة تُخرج الإنسان من حيِّز العادة التى تجعل الإنسان آلةً لا روح فيها، نعم... فقد يؤدى الإنسان العبادة بصورة روتينية غير مستشعر معناها، وذلك لأنه صار يؤديها أداءً روتينياً، فيُمسك فى رمضان عن الطعام مع إمساك مَن حوله! ويأكل إذا أكل مَن حوله! ويقوم للصلاة إذا قام مَن حوله! ويصلى وهو ذاهل عن عدد الركعات! غير متدبر لما فيها من أذكارٍ وتلاوات!
فيكون آلة فى صورة إنسان.. لا يجد للعبادة لذة، ولا تحقق فيه العبادة أثراً، وكيف وهو يؤديها وهو شارد الذهن مشتَّت النفس والقلب؟!
إذنْ فالإيمان هنا معناه أنْ يكون الإنسان يقظاً لا غافلاً، أن يكون إنساناً بحقٍّ لا آلة فى صورة إنسان، أنْ يكون حياً بين أحياء لا ميتاً بينهم، أن يعرف الخالق سبحانه وحقوقه وأنْ يتقرب إليه، وأن يعرف آداب العبودية وأن يأخذ نفسه بها... معانٍ كثيرة وراء هذه الكلمة الواحدة، وكلها تدور حول نفع الإنسان فى الدنيا والآخرة.
وكلمة (احتساباً) معناها أن يحتسب ثواب صومه عند الله تعالى وحده، لا ينتظر ثناءً من أحدٍ، فهو عبد لله وحده، ومخلص لله وحده، وإن لم يخلصْ لله تعالى فكيف ينتظر ثوابه يوم القيامة؟! وكيف يتطلع إلى جنته فى الآخرة؟!
وهذا المعنى نافع للمجتمعات بقدر ما هو نافع للأفراد، نعم.. وهل شقيت المجتمعات إلا بالأشخاص الذين يعملون من أجل مجد أو عطاء دنيوى؟!
واحتساب الأجر عند الله تعالى معناه أن الإنسان سوف يُحسن حتى وإن قوبل إحسانه بالإساءة، فهو لا يُحسن طلباً لثناء أحد، أو عطاء أحد، أو انتظاراً أن يقابل إحسانه بإحسان، وإنما هو يحتسب ثواب عمله الصالح عند الله تعالى، وما دام الله تعالى هو المثيب فلن يتوقف المخلصون عن عمل الخير والبر والإحسان.
وما يقال عن صيام الفريضة فى رمضان يقال فى الأعمال المندوبة فيه كقيام ليله وقيام ليلة القدر فيه، فالأعمال المندوبة ينبغى أنْ يأتيها الإنسان حباً فى الله تعالى وتقرباً إليه، لا ينظر فيها لسواه، ولا ينتظر عطاءً من غيره... إذنْ وراء هاتين الكلمتين النبويتين معانٍ تستيقظ بها الروح من سُباتها [نومها] فتُصلح بها نفسها وتُصلح بها المجتمع مِن حولِها... فينصلح حال الأفراد والمجتمعات.