مِن النادر أن أعترف أن هناك شخصاً ما أتعبنى، ولكنه حقاً أتعبنى، هذا الصديق الذى أحبّه جدّاً، ورغم أنى أعرف أننا لا نستطيع أن نغيّر تماماً فى الأشخاص إلا إذا أرادوا هم، فإننى تمنيت له حقاً أن يرى الدنيا بشكل مختلف.
تحدثت إليه هذا الصباح لأطمئنّ على حاله بعد عودتى من رحلة عائلية، وكان مما سمعته منه، كالعادة: «لقد عدت منهكاً ليلة أمس إلى البيت بعد يوم طويل، مجهد الوجه، أشعث الشّعر، غير مهندم الثياب، حتى إن حارس العمارة كان ينظر إلىّ وكأنه يقول فى داخله: مَن هذا؟ ولماذا يبدو هكذا؟».
أتتنى حكايته هذه المرة ثقيلة، لم أعد أتقبلها ببساطة كما كنت أفعل كل مرة، فهو يربط كل ما يفعل فى حياته بانطباعات الناس ورأيهم فيه.. فقررت أن أكتشف لماذا أصبح الأمر يجهدنى هكذا، فأنا أدرك جيداً أن منا هذا الذى يعرف كيف يعيش حياته باتزان، ينجح فى أن يمارسها بكل طقوسها كما ينبغى أن تكون من أجل إسعاد نفسه وإسعاد الآخرين، يعرف أهدافه جيداً التى اختارها بنفسه لنفسه ويسعى لتحقيقها.
وأعرف أيضاً أن منا كثيراً من هؤلاء.. منا مَن يعيش حياته من أجل نفسه فقط، وبعضنا يعيش تماماً من أجل الآخرين، وبعضنا يعيش من أجل أن يُرى نفسه للآخرين.. وهذا هو أصعبهم على الإطلاق.
نعم، فالبعض يعيش حياته ولا يهتم إلا بما يسعده هو ويحقق آماله وطموحاته، حتى وإن كانت على حساب الآخرين، يرى -ولا يرغب فى أن يرى إلا- أن العالَم خُلِق له وحده، وعليه أن يستفيد منه ويستمتع به إلى أقصى حد.
والبعض -وأعرف منهم كثيرين- يعيش فقط من أجل الآخرين إلى الحد الذى ينسى فيه نفسه ورغباته وأحلامه وحقوقه أيضاً، يحسب كل شىء فى حياته بمعيار تأثيره على الآخرين، يتخذ قراراته أو يتراجع عن قراراته فقط من أجل إسعاد مَن يحب.. إلى أن يمر العمر ولم يتذوق منه شيئاً لنفسه.
أما هذا الذى يعيش حياته من أجل أن يُرى نفسه للآخرين فهو فعلاً أصعبهم على الإطلاق، فهو يصنع كل شىء فى حياته من أجل أن يقول عنه الآخرون هذا، أو من أجل ألا يقولوه. يهتم بصورته أمامهم إلى الحد الذى يُذهِب النوم عن عينيه أحياناً، وأول ما سيفكر فيه عند طرح أمر عليه هو: «ماذا سيقول الناس عنى؟»، وسيستهلّ حديثه بأن الجميع يقولون عنه كذا، وسيحاول انتزاع أفكار الآخرين عنه من خلال نظراتهم وطريقة حديثهم معه دائماً، فكل شىء يمر على مؤشره الحساس لتقييم نفسه فى عيونهم.
يا الله.. هل هم يعيشون حقاً؟! متى كان إرضاء الناس هدفاً يمكن أن نعيش من أجله؟!
إذن يا صديقى الطيّب كيف تقبل أن تجهد أعصابك هكذا؟ ومِن أجل مَن؟
أنا أعرف أنك شخص رائع وتريد أن تُبارك أفعالك دائماً، ولكنى أردت أن أقول لك: عليك ألا تبذل كل هذا المجهود فى عملك فقط حتى يقال عنك إنك تجيد عملك، ولكن اصنع ذلك لأنك تحبه ولأنك تجيده، ولأنه يستحق.. فالهدف نفسه سيغير مسار حياتك.. صدّقنى.
لا تمارس طقوس حياتك العائلية فقط من أجل أن ترضيهم عنك، وتصبح مثالاً يتندرون به أمام العائلات الأخرى، بل مارس كل أنشطتك العائلية مع عائلتك وأبنائك ومحيطك الاجتماعى من أجل إسعادك أنت ومن أجل إسعادهم، افعل ما تحبه أنت وهم، وليس من أجل التقييم النهائى الذى سيصدرونه عنك هم ومن ستصل إليهم أخبار أفعالك فيما بعد. لا تهتمّ يا صديقى بأن ترضى ذوق من سيراك فى ملبسك وسيارتك وبيتك، اشترِ ثيابك لأنك تراها تليق بك وتناسب احتياجاتك، لأنك تحبها.. فلن يمنحك أحدهم شهادة تجعلك بطلاً لأنك ترضى ذوقه، فيوماً ما ومع أول تقييم سلبى منهم سينتهى كل ما بنيته فى خيالك من أبراج النجاح فى عيونهم.
إذن توقف الآن.. ألم تتعب بعدُ مِن السير فوق هذا الحبْل الذى يرضيهم ويخنق إرادتك الحرة ويسلبك استمتاعك بالحياة؟
عِش حياتك يا صديقى.. فالحياة أبسط من كل هذا، فَلِمَ نعقّدها على أنفسنا؟
النجاح يبدأ فى قلبك أيها الطيّب.. فلا تنسَ أن تستمتع بإشراق الشمس على جبهتك كل صباح، واترك لابتسامتك الحرية فى أن تطول أو تقصُر حسب إحساسها بمن تقابل، بدءاً من عتبة بيتك وحتى تعود إليه سالماً من جديد.
وتذكّر قول شيخى الطيّب: «لن يهديك أحد يوماً من عمره لتعيشه بدلاً منه».. فعِش من أجلك ومن أجل مَن تحب، ومن أجل هدف يستحق.