«افتقاد.. وحنين.. وحديث لم يعد إلا معه». كتبت يوماً هذه الكلمات فى صديق وأنا أعلم أن الأحاديث التى جمعتنى به لن تتكرر مع أحد غيره، فكل هذا الرقى والإيمان والبساطة كانت تذهلنى كلما تحدثت إليه، كان هذا الصديق من أفضل كَتَبَة التعليق الصوتى للأفلام الوثائقية الذين قابلتهم على الإطلاق، فلسطينى الجنسية، وكان كعادة الفلسطينيين الذين لا يستقرون فى الأرض، أتعبهم الترحال عن الأهل والوطن. عرفته حين التحق بالعمل فى القناة العربية فى إحدى الدول الأجنبية التى كنت أشارك فى تأسيسها وإطلاقها آنذاك. لفت انتباهى جداً مرحه العذب ونظرته الراقية وحديثه الذى لا يخلو من الدعابة والدعاء فى ذات الوقت. تصادقنا لأكثر من ثلاثة أعوام، رحل عن عالمنا بعدها بعد صراع طويل مع المرض. نعم، أذهلنى أيضاً بما رأيته منه عندما كنت أرافقة إلى باب غرفة العمليات وعندما كنت أشاركه جلساته بين الأصدقاء فى أثناء إقامته فى المستشفيات التى تنقل بينها لزمن ليس بالقصير، بعد أن أكل السرطان من جسده النحيل ما أكل، واقتطع مع مشارط الجرّاحين من رئتيه ما اقتطع.. فرغم كل هذه المعاناة لم أكن أراه إلا مبتسماً وضاحكاً من قلبه كلما قص علينا حكاياته عن المواقف التى عاشها فى حياته. لم نكن نتوقف عن الضحك، فمَلَكَته فى الحكْى الطريف جعلتنا نستمتع بسكتاته قدر استمتاعنا بكلامه. أتذكّر يوم جاءنى سائقاً سيارته بنفسه بعد أن تدهورت حالته الصحية، اتصل بى من تحت منزلى يطلب منى مرافقته للصلاة فى أحد المساجد والمزارات الدينية الشهيرة (يوشع تبه سى)، حيث يقع قبر يوشع عليه السلام فى الجانب الآسيوى من إسطنبول. وبعدها طبعاً فنجان شاى ساخن فى ساحته الخضراء أعلى قمة الجبل الذى يلتقى عنده البسفور بالبحر الأسود.. ترجمت اعتراضى على قيادته للسيارة فى حالته تلك بأن اتخذت مكانى فوق مقعد قيادة السيارة وانطلقت، فبادرنى بالحديث قائلاً: «قبل أن تسألى سأقول لك، إن كان فى رزقى أن أعيش يوماً فى هذه الحياة فلمَ لا أفعل فيه ما أحب مع من أحبهم؟». بعد هذا اليوم بستة أشهر فارق الحياة.. ولم تفارق أحاديثه ذاكرتى. نعم يا صديقى العظيم، فقد علمتَنى كيف تكون الرغبة فى الحياة ومقاومة المرض، وأشهد أنى لم أرَك شاكياً يوماً، فما كنت لتسمح للآخرين بأن يأسفوا على حالك أو يتألموا من إحساسهم بالعجز عن مساعدتك فى ما أنت فيه.. فما كان منك غير البسمة الرائقة حتى آخر يوم.. والآن يا عزيزى وأنا أتذكّرك سألت نفسى: ما هذه الثورة التى أراها فى ملامح الناس وأصواتهم مع أقل ألم يشعرون به؟! لماذا لم تعد تفارق الشكوى الألسنة حتى ظننا أن الدنيا ما هى إلا معاناة وألم؟! بل لماذا يهدرون أعمارهم فى انتظار الموت؟ ألم يكن أجدر بهم أن يفعلوا -كما قلت لى- ما يحبون مع من يحبون؟
من منا يحب الألم؟! أعلم تماماً كيف ألهتنا مشكلات الحياة عن أنفسنا، أنستنا كيفية التعامل مع أجسادنا فى الصحة والمرض، كيف نتعايش مع الحالتين، فلماذا نجعل زيارة الطبيب اختيارنا الأخير؟! لماذا لا تسأل عن جسدك وتطمئنّ على حالته من وقت إلى آخر؟ فكّر معى قليلاً، إن لم تسأل عنه أنت فمن سيسأل عنه؟ بل إن أهملته فمن سيتألم غيركما فى النهاية؟ أنت مسئول عنه إذن، فامنحه من وقتك قليلاً لتفقُّده؛ ألم يمنحك من قوّته ما عشت عليه حتى الآن، وسيمنحك منها ما ستواصل به حتى النهاية؟! حقه عليك لن يمنحه له أحد غيرك، فلا تنسَهُ. أمّا إن واجهت المرض يوماً فلا تشتكِهِ إلى أحد، ألم تهمل السؤال عنه حتى وصل إلى هذه المرحلة؟ ألم تُتعِبه بكل عاداتك غير الصحية التى أجهدَته فتَحمّلَك وواصل معك الطريق مُجبَراً رغم ما تفعله به؟ طبطب عليه الآن يا صديقى وأنقذ ما يمكن لك أن تنقذه حتى تزول كبوَته. وفى هذا الوقت حاول ألا تنسى أن اجتيازك هذه المرحلة مرهون بك أنت، فنصف العلاج فى حالتك النفسية، ونصف حالتك النفسية تصنعها علاقتك بمحيطك الاجتماعى، فمنهم ستستمد قوّتك دائماً. رزقنا الله وإياكم الصحة، وألهمنا قدرة مواجهة المرض، ورحمنا من داء الشكوى. وكما كانت تقول جدتى البدوية: «شكواك، والبكا برداك، على سليم.. ما فادك بشى». دمتم أصحاء معافين.