نعم، أنا أعرفها جيداً، فهى لا تعرف كيف تطلب الأشياء. تخجل من إظهار شعورها بالحاجة إلى أى شخص حتى ابنها الوحيد أو أقرب أفراد عائلتها لها. تعوّدَت أن تعيش وحدها منذ سنوات، أغلقَت عليها بابها وتعلمَت كيف تشبع احتياجاتها بأقل الإمكانيات، أما إن زادت الإمكانيات وفاضت أفاضت هى على مَن حولها دون أن تفكّر، لا تستطيع أن ترى أحداً فى ضائقة دون أن تكون إلى جواره حتى وإن أطعمته آخر ما فى جيبها.. كم أنا فخورة بكِ أيتها الصديقة النبيلة.
نعم، بقيت أراقب حالها لسنوات، لم يتغير قلبها، بل زاد اعتزازها بنفسها وكرامتها، وزاد كرمها أيضاً.
كنت أتحيّن الفرصة للقائها والاستمتاع بطاقتها المحملة بالفرح وحب الحياة. تواعدنا على القهوة مساء أمس وذهبت إليها.
قابلتنى بابتسامتها كالعادة ولكنها هذه المرة كانت ابتسامة واهية، لم تطربنى بنغمة صوتها الفرِحة كما كانت دائماً، رأيت فى قلبها شرخاً يجاهد ليظهر نفسه لى، فلم أستطع تجاهله، بادرت بالسؤال: «ماذا بك يا عزيزتى؟»، وتوقعت إجابتها المعهودة: «كل شىء تمام، نعمة وفضل من ربنا»، ولكنها قالت: «تعبت!»، وصمتَت.
لم أصمت أنا وسألت لأفهم وأطمئن عليها، فقالت مستسلمة لى: «تعرفين أنى لا أحب الشعور بالاحتياج، ولكننا أحياناً نضع أنفسنا أو تضعنا ظروف حياتنا فى موقف الضعيف، فنقف لنفكر.. كيف نسدّ احتياجاتنا؟ وإلى مَن نلجأ الآن حتى نخرج مما نحن فيه؟ ألم يخلقنا الله لنتكامل، ليساعد أحدنا الآخر، ليسد أحدنا حاجة الآخر؟ قولى لى، أليس كذلك؟».
قلت لها: «بلى، بالطبع، فليس منا من يستطيع الاستغناء التام عن الناس سواء كانت من أجل احتياجات مادية أو معنوية.. هذه سنّة الحياة».
قالت: «أجَل، أنا أيضاً هكذا تصورت، ولكنى صُدمت فى واقعى عندما سألت نفسى ذات السؤال: إلى مَن ألجأ الآن؟ فوجدت أنى ليس لى أحد أستطيع أن أطلب منه أن يشدّنى إذا ما أشرفت على السقوط، أو ليكون لى سنداً إذا مسّنى كرب».
تأملتها قليلاً ثم سألت: «رغم كل هذا الرصيد الذى صنعتِه عند الناس بالحب والكرم والدعم لم تجدى شخصاً واحداً، كيف هذا؟!».
قالت وهى تأخذ نفَساً عميقاً: «قد يكون الخطأ منى أنا، فأنا عوّدتهم ألا أحتاج، أن أحترف الصمت حتى فى أحلك المواقف التى مرّت علىّ. أو ربما كان أسلوبى فى الحياة خطأ وآن الأوان لأتعلم الدرس، فليس سهلاً أن تواجهى نفسك بأنك ليس لك أحد لتستندى عليه. نعم يا عزيزتى، أنا حقاً تعبت».
أعادتنى هذه الطيبة إلى نقطة البداية من جديد.. انتهت الزيارة، شكرتها على القهوة ووعدتها بزيارة قريبة، وأنا أعرف تماماً أن اللقاء المقبل سيحمل لى منها كثيراً من التغيير.
نعم يا عزيزتى، أنا أعلم أن من أجمل الصفات التى نتعلمها هى أن نتماسك فى المِحَن، ألا نشتكى حالنا للآخرين، هكذا قلت لك يوماً، ولكن هذا لا يعنى أبداً أن نضع أنفسنا فى قالب مَن لا حاجة له. فالحياة قد تصعد بنا إلى القمة ثم تهوى بنا إلى القاع، ولهذا نحن نعطى حيناً ونأخذ حيناً، وبهذا نتعلم الدرس وندرك قيمة وجود الأشياء أو فقدها.
يا صديقتى البهية، لا تحرمى نفسك من أن تعيشى الحياة بلا إفراط أو تفريط كما أخبرونا، أنا الآن لا أطلب منك أن تشتكى ولكن أطلب منك أن تشاركى.. ليس لطلب العون فقط ولكن من أجل أن تشعرى أنك لست وحدك فى هذه الحياة.. فالسند يا حبيبتى أعظم ما يمكن أن تحصلى عليه.
ما نعيشه الآن سيمرّ، كما يمرّ كل شىء فى الحياة، لن يبقى سوى ذكرى أو درس. كلنا يعيش حالات الضيق والكرب، فإن كانت ضائقة مادية.. فحتماً سيجعل لك مَن وضَعك فيها مخرجاً، وإن لم يكن فتأكدى أنها ستُظهر لك معادن من حولك. أما إن كان الاحتياج معنوياً -وهذا ما أظنه أتعبك أكثر يا عزيزتى- فقد آن الأوان لتفرزى مَن حولك، قابليهم وأشركيهم فى محنتك، فقد جاءتك الفرصة لتعرفى مَن منهم سيكون لك سنداً فى الحياة. لا تترددى فى أن تحذفى أو تضيفى إلى قائمتك، انتظرى ردود أفعالهم، وسيخبرك قلبك الطيّب حينها مَن منهم يستحق هذا المقام فى حياتك، وأفرغى مقاعد قلبك ممن لا يستحقها، يكفيهم ما سلبوه من زمانك حتى الآن..
وفى الحالتين يا عزيزتى، انظرى إلى النتيجة، وواصلى مع مَن يقف إلى جوارك فى الحياة حتى النهاية، فهو فقط من يستحق قلبك النبيل.