دائماً ما يكون التحدى الأكبر الذى يواجه كل المهتمين برسم السياسات الصحية فى العالم عبر كل العصور هى فكرة حساب التكلفة للخدمات المقدمة للمريض.. والتى تتباين بين مستويات تقديم الخدمة مع الفندقة من عدمها.. وتتباين بين القطاعين العام والخاص بدرجة كبيرة للدرجة التى تجعل المنافسة تخرج من حيز التنافس على الجودة إلى حيز التنافس بالإتاحة وحدها..!
وعلى الرغم من كل ما فعلته أزمة كوفيد فى العالم كله.. إلا أنه يحسب لها أنها قدمت للعالم مفاهيم أكثر وضوحاً عن حساب تكلفة الخدمة.. وأنها ينبغى أن تشمل بجانب المستهلكات والأدوية حساب الأجور العادلة للعاملين فى القطاع الصحى، بل والربحية أيضاً إن كانت الخدمة تقدم من القطاع الخاص..!
إشكالية كبيرة يقع فيها كل من يحاول أن يفتح هذا الملف الشائك.. فالرعاية الصحية حق يكفله الدستور وتلزمه الإنسانية نفسها.. والحصول عليها ينبغى أن يخرج من معايير السوق التنافسية فى العرض والطلب.. ليظهر مفهوم «الإتاحة» التى لا ينبغى أن ترتبط بما يمتلكه المريض أو ما يتمكن من الحصول عليه بماله الخاص!
لا ينسى مخططو السياسات الصحية فى مصر ذلك التقرير الذى أصدرته شركة «جونز لانج لاسال» المهتمة بالاستثمار الطبى فى نهاية عام ٢٠١٩ تقريباً.. ذلك التقرير الذى يفيد بأن القطاع الخاص الطبى فى القاهرة قد أصبح يستحوذ على ٧٣٪ تقريباً من المستشفيات والمراكز الطبية الموجودة بها.. التقرير نفسه أشار إلى أن القطاع الخاص الطبى فى مصر يتركز جغرافياً فى العاصمة بنسبة تقارب الـ٨٠٪.. بالإضافة إلى تجارب قليلة فى بعض المدن القريبة منها والتى ترتبط بالعاصمة بشكل مباشر..!
هذا الانتشار الغريب على معظم مخططى السياسات الصحية فى العالم كله أدى إلى اتساع الفجوة بين الإتاحة والاحتياج.. وأبرز مفهوماً جديداً لا ينبغى أن يستمر كثيراً فى مجتمع كمجتمعنا وهو مفهوم حساب تكلفة الخدمة الربحى.. بمعنى أن يتم تحويل الخدمة الصحية بشكل كامل إلى سلعة تخضع لقواعد العرض والطلب.. وتلغى فكرة التنافس فى جودة الخدمة ليتحول الأمر إلى فكرة الحصول على أكبر ربح ممكن من كل مريض.. وهو أمر لا يمكن قبوله.. فضلاً عن أنه قد أصبح غير قابل للاستمرار طويلاً دون تشوهات مجتمعية فى منتهى الخطورة.. فلا يوجد مجتمع سوىّ يربط خدماته الصحية بقدرة المريض على تسديد قيمة الخدمة!
فى عالم الاستثمار يظل مجال الرعاية الصحية يحتاج إلى كثير من التوضيح.. فالاستثمار فى الصحة لا يمكن إطلاقه دون ضوابط حاكمة للجميع.. أهمها ضمان الاستمرارية والجودة والأمان.. وهى أمور تلتبس على كثيرين ممن يروجون لفكرة أن مشاركة القطاع الخاص ضرورة لوجود فجوات تمويلية فى الخدمات الصحية ينبغى أن يتم تعويضها.. وهى مغالطة شهيرة وشديدة الخطورة..!
الاستثمار فى المجال الصحى يهدف إلى توفير الخدمة بأجر محمل بالربح، ولكنه فى واقع الحال لا يغلق الفجوة التمويلية أو يحقق إتاحة فعلية للخدمة، فالتوزيع الجغرافى للقطاع الخاص لا يأخذ فى الاعتبار احتياج منطقة بعينها دون غيرها.. فلن يفكر مستثمر فى الذهاب إلى الصعيد مثلاً لإنشاء مستشفى.. بل يبحث دائماً عن العاصمة التى سيجد بها من يملك أن يدفع ثمن الخدمة.. الأمر الذى يسهم فى اتساع فجوة العدالة الاجتماعية وليس السيطرة عليها!
الدولة من جانبها تحاول بكل قوتها أن تسيطر على الأمر.. السلاح الأهم هو مشروع التأمين الصحى الشامل الذى يعول عليه الكثيرون لمواجهة هذا الخلل.. ليبقى السؤال الأهم وهو: هل سيتمكن من المواجهة؟!
الإجابة تصبح «نعم» فى حالة واحدة.. هى توافر إرادة حقيقية فى تنفيذ المخططات الصحية المرسومة دون تراجع أو مواربة.. مع وجود آليات واضحة للتنفيذ تحميها مظلة تشريعية واضحة وثابتة.. مظلة تسمح للقطاع الخاص بهامش ربح «ثابت» ومراقب يخضع للمتابعة والتقييم.
إن الاحتياج لتشريعات جديدة لمجموعة تحكم القطاع الخاص فى الصحة قد أصبح ضرورة ملحة.. تشريعات يمكنها إعادة توزيع الخدمات الاستثمارية جغرافياً بشكل استراتيجى.. فمثلاً أعتقد أنه قد بات لزاماً أن تتدخل وزارة الصحة لتوزيع المستشفيات الخاصة بشكل جغرافى منظم.. فلا يتم السماح بترخيص مستشفى فى مكان يمتلك بالفعل عدداً من المستشفيات إلا بعد أن تتشبع الجمهورية كلها.. نحتاج إلى تشريعات تسمح للدولة بالسيطرة على القطاع الخاص بشكل منضبط ليتحول إلى استثمار تنموى كما هو مفترض.. وليس بمفاهيم الاقتصاد مجرد استثمار استهلاكى..!
إن القطاع الخاص شريك أساسى فى الرعاية الصحية فى كل دول العالم.. ولكن غياب الدور الحكومى فى العلاقة بينه وبين المواطن هو الإشكالية الحقيقية التى ينبغى أن يتم السيطرة عليها بأسرع وقت.. أو هكذا أعتقد!