لم يعد يخفى على أحد أن الإعلام العابر للعقول والحدود صار أداة رئيسية من أدوات النفاذية الثقافية والتأثير السياسى. لكن الأمر لا يتوقف عند هنا، فصعود الإعلام على مسارح الثقافة والسياسة الدولية كلاعب رئيسى واكبه صعود آخر على جبهات القتال.
لذا، ليس مستغرباً أن تنشر «سى إن إن» ما سمته أنه «تقرير صحفى»، حتى ولو جرى إعداد هذا التقرير فى غرفة خاصة غير صالة التحرير، أو عبر أشخاص آخرين غير المحررين والصحفيين الذين أداروا اجتماعهم التحريرى المعتاد فى صباح ذلك اليوم.
وليس مستغرباً أن يأتى تقرير «سى إن إن» بعد أيام من مفارقة المراسلة العسكرية الأمريكية جوديث ميلر، فى مجلة «تابلت» اليهودية تحت عنوان «?How Hamas Saved Egypt» كيف أنقذت حماس مصر؟ «إن مصر استفادت من أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول فى إنقاذ اقتصادها». فالتقرير المنشور فى «سى إن إن» العربية واسعة الانتشار بدا كأنه الجزء الثانى من تقرير المجلة اليهودية محدودة الانتشار عربياً. كل ذلك ليس مستغرباً، لكن الشىء الحقيقى المستغرب هو هذه الركاكة المهنية التى ارتكبتها «سى إن إن»، إلى الحد الذى افتقر معه التقرير إلى أبسط القواعد والمعايير.. طبعاً إذا اعتبرنا مجازاً أن هذا التقرير هو تقرير صحفى حسن النية!
1- التجهيل التام!
قد يُسمح صحفياً بالنقل عن مصادر دون الكشف عن أسمائها، لكن على الأقل لا بد من الإعلام بجهة تلك المصادر، أو طبيعة وظائف أصحابها، أو علاقتهم بالقضية محل العرض، حتى يتمكن القارئ من اعتماد ما تخبره به المصادر أو رفضه أو التشكك به. لكن الاكتفاء بكلمة «مصادر» أو «مصادر مطلعة» دون أى إفصاح عن ماهية تلك المصادر ولو جزئياً، فهو سقطة أولى.
2- التنصل الغائب!
يعنى التنصل أن تنقل الرواية التى تخبرك بها المصادر، مع التأكيد على أن تلك الرواية تخص مَن أدلى بها، ولا تخص المنصة الإعلامية المنشورة عليها، فهى رواية على عهدة صاحبها، قد تكون سليمة وقد تكون ملفقة. بينما على عكس ذلك جاء التقرير خالياً من أى أداة من أدوات التنصل الصحفى المتعارف عليها، مثل «بحسب قوله»، «على حد زعمه»، «وفق ما قال به»، كأن الكاتب شريك ضمنى فى روايات المصادر، أو كأن المصادر هى نفسها مَن كتبت، ومَن كتب هو نفسه المصادر!
3- الطرف الواحد!
من القواعد المهنية المستقرة، لا سيما فى الإعلام الدولى، إتاحة حق الرد، داخل نفس القطعة الصحفية، بينما جاء التقرير على عكس ذلك خالياً من أى وجهة نظر أخرى، أو رد، أو تعليق، كأنه تقرير بعين واحدة عن طرف واحد من مؤسسة تقول عن نفسها إنها تؤمن بالتعدد والتنوع وإثراء وجهات النظر!
4- اللا معقولية!
قصص اللا معقول تصلح للنشر فى صفحات المنوعات والتسلية، لكنها لا تصلح للنشر فى صفحات الشئون الدولية. الرواية التى نقلتها «سى إن إن» بكل ما تفتقر إليه من قواعد مهنية هى رواية لا معقولية فى الأساس، أشبه بفنون الفانتازيا، تريد أن تقول لنا إن عجلات المفاوضات تعطلت ليس بسبب الحمولة الزائدة، ولا العربة المتهالكة، ولا الأطراف المتعاركة داخل الكابينة، لكنها تعطلت بسبب ضابط المرور الذى يسعى جاهداً لتيسير الحركة وتنظيم الخطوط!.. أى لا معقولية أكثر من ذلك؟ وإذا كنت مضطراً لنشر هذه الفانتازيا السياسية، أليس من الجدير مهنياً دعمها بشىء من السياق الشارح والخلفيات الوافية التى قد تؤكد الأمر، أو تنسفه تماماً كما هو الحال فى الرواية التى أمامنا؟
شىء لا يمكن تصديقه!!.. هل لا تعلم «سى إن إن» بهذه القواعد المهنية البسيطة التى تُدرس لطلبة الإعلام والصحافة؟.. هل لا تعرف «سى إن إن» الفارق بين التقرير الصحفى ومنشورات الحرب؟.. هل سقطت كل المعايير والقواعد سهواً؟.. هل تخلو أجندة مصادر «سى إن إن» من أرقام القاهرة، لذلك تعذر عليها الوصول.. أشك!