«قال محجوب لنفسه: نزلنا درجة.. بعدها قال: نزلنا درجة كمان.. ثم أردف: نزلنا أسفل السافلين». هذا المشهد من فيلم «القاهرة 30» لا يُنسى بحال، ويصف كيف ينحدر الإنسان وتنحط أخلاقياته، بحيث يأتي أفعالاً وسلوكيات، لم يكن يتخيل أن يأتيها من قبل.. والسؤال ما معنى أن يصل الإنسان إلى أسفل سافلين وكيف يصل إلى ذلك؟
يقول الله تعالى في سورة «التين»: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ».. اختلف الفقهاء في تفسير هاتين الآيتين، فبعضهم ذهب إلى أن عبارة «أحسن تقويم» تعني أحسن خلق وأقوم صورة، وأن الارتداد إلى «أسفل سافلين» معناه التحول من الصورة القويمة الحسنة إلى صورة أخرى «مشوّهة» شكلاً ومضموناً.. وذهب آخرون إلى أن المقصود بحُسن التقويم مرحلة الشباب، حين يكون الإنسان في عنفوان قوته العقلية والبدنية، وأن مرحلة «أسفل سافلين» تعني الوصول إلى مرحلة الكبر أو الهرم، حين تنحط القوى العقلية للإنسان، وتنهار قوته البدينة.
إذا كان لي أن أرجح أحد التفسيرين على الآخر، فإنني أرجّح التفسير الأول على الثاني، والسبب في ذلك الآية التالية للآيتين الكريمتين: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ».. فاستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يعني أن هناك من ينجو من السقوط في بئر «أسفل سافلين»، أو بعبارة أخرى ينجو من حالة التشوه الصوري والعقلي الذي يسقط فيه غيره، بعد أن كان مكتملاً على مستوى الهيئة والقدرة على التفكير.
حُسن التقويم يعني ببساطة التناسق والتوازن.. التناسق على مستوى الشكل، والتوازن على مستوى التفكير، وبالتالي فتشوه الصورة يدل على فقدان التناسق الطبيعى للشكل، كما خلقه الله تعالى، وذلك بتدخل اليد الإنسانية، واتجاهها إلى التلاعب في ما هو طبيعي عن طريق الصناعة والفبركة، هنا يحدث التشوه، أما تشوه التفكير فيعني عدم التوازن في النظر إلى الأشياء، بما يحمله من معاني الانحياز وغياب الموضوعية والغرض وغير ذلك.. وبالتالي «أسفل سافلين» تعني الوصول إلى مرحلة انحطاط غير مسبوقة على مستوى الشكل والتفكير، وليس معناها تضعضع الصحة أو تراجع القدرات العقلية للفرد في مرحلة الكبر.
فالناس جميعاً متساوون في التضعضع الصحي وتراجع القدرات العقلية حين يجري بهم العمر، ولا استثناء لأحد في ذلك.. يقول الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً».. ويقول: «وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ».. لا استثناء لأحد من الضعف والتراجع فى الكبر، وتلك سنة الله تعالى في خلقه.. نعم ينفع الإيمان والعمل الصالح صاحبيهما في الدنيا، لكن نفعهما في الآخرة أكبر، وهما العاملان الأهم في نجاة الإنسان فيها.. وليس من المستبعد في هذه الحالة أن يكون معنى «أسفل سافلين» هو مآل الإنسان إلى عذاب الله في الآخرة، إذا لم يدّخر لها إيماناً أو عملاً صالحاً.