هناك تكتيك دائماً ما يلجأ إليه الأفَّاق والمخادع والمجرم، للتمويه على جريمته، أو لتجميل صورته، أو للمزايدة على الآخرين وتشويههم، عندما يُحدِّثك يبدأ كلامه بما تعرفه من حقائق، ثم يُعزز مصداقيته ببعض ما تسرَّب إليه من معلومات كنت تظن نفسك الوحيد الشاهد عليها، ثم رويداً رويداً يحقن سمومه وأكاذيبه فى عقلك ببراعة دون أن تشعر حتى بـ«شكة الإبرة».. عندها تصير مخدَّراً أسيراً لوجهة نظره معتقداً برجاحة قصته المزعومة.
هذا ما تفعله إسرائيل منذ هجرة العصابات الصهيونية إلى أرض فلسطين فى أثناء الحرب العالمية الثانية تنفيذاً لوعد بلفور الذى لا يملك لمن لا يستحق، وصولاً إلى حرب الإبادة فى قطاع غزة.
ولكن تلك القصص المختلَقة والكاذبة لإسرائيل لم تعد تلقى رواجاً أمام مذابح المحتل وإبادته لأطفال الأرض والنساء والشيوخ والشباب.. للمرضى والمصابين، وحتى النُطف فى معامل الأجنَّة.. لم تعد الأكاذيب تصمد أمام مسيرات النازحين فى ممرات الموت بأجسادهم وقد تركوا أرواحهم وأعمارهم خلفهم فى منازلهم.. لم تعد الأكاذيب تصمد.. فكيف يُعقل أو يُصدَّق أن هؤلاء العُزَّل الذين يبسوا على عظامهم، جوعاً وعطشاً وخوفاً، ثم أُقبروا تحت بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم فرادى وأُسراً ومجموعات، ليسوا بضحايا وأصحاب مأساة لا يضاهيها فى التاريخ إلا إبادة هنود أمريكا.
باتت الرواية الإسرائيلية ودفاعها عن جرائمها أمام الرأى العام العالمى وأمام المحكمة الجنائية الدولية كمن يقول للقاضى: «ده ضربنى بوشه فى إيدى يا بيه»، بينما وجه الضحية القابع فى القفص بفيتو مجلس الأمن، والمحاصَر على أرضه، والمتهَم فى حقه المشروع، رغم اعتراف وشهادة الأمم، قد صار بلا ملامح من تتابُع الضربات واللكمات.
لا تتوقف أكاذيب إسرائيل عند اختلاق المبررات لجرائمها فى الأراضى المحتلة، والتى لم تعد تنطلى على أى إنسان لديه ذرة من وعى وضمير، وإنما امتدت للتشكيك فى الدور المصرى وجهود القاهرة للوساطة ووقف الحرب على غزة.. خرجت علينا الـCNN قبل أيام لتخبرنا على لسان ٣ مصادر أن مصر (تلعب بورقتين) فى مفاوضات التهدئة، إذ دفعت بإحداهما إلى إسرائيل وباقى الوسطاء، ومررت الأخرى لـ«حماس» (من تحت الترابيزة)، كل ذلك دون أن يخبرنا مصدر واحد من الثلاثة المطلعين فى تقرير الـCNN ماذا كان فى الورقة الأولى، أو فيما اختلفت الثانية، حتى نفهم القصة.
مُقامرة هى إسرائيل كعادتها، تلعب بالثلاث ورقات لا ورقتين.. ولكن مقامرتها هذه المرة أكبر، سواء فى مطامعها أو خسائرها، فهى إما أن تفوز وتبتلع غزة والضفة، أو «تقلب الترابيزة» حتى تُنقذ نتنياهو وحكومة المتطرفين من المُحاكمة الداخلية قبل الخارجية.
أستطيع، باستخدام تكنيك الخداع الإسرائيلى، وحبكة الـCNN للتلفيق والتزييف، أن أختلق قصة أنا الآخر، على لسان ألف مصدر ومصدر، يمكننى مثلاً أن أكتب على لسان مصدر «ابن آبالسة» أن نتنياهو استجاب لوسوسته وهدَّد الرئيس الأمريكى وقادة أوروبا بأنه فى اليوم الذى يُقدَّم فيه إلى المحاكمة أو يتخلى الغرب عن دعم دولة الاحتلال، فإن جحافل اليهود ستزحف فى اليوم التالى عائدة إلى أوطانها الأولى فى أوروبا وتستشرى فى خلاياها العصبية حتى آخر نفَس، وهو أكثر ما يخشاه الغرب أن يصاب مجدداً بالسرطان الذى برئ منه قبل ٧٥ عاماً.
أستطيع أن أقول إن اللوبى الصهيونى هدَّد بتوجيه أمواله ونفوذه ضد «بايدن» فى معركة الانتخابات الأمريكية بدلاً من دعمه. كما يمكننى صياغة قصة عن اتفاق بين «واشنطن» و«تل أبيب» لتجهيز الرصيف الأمريكى العائم من أجل تهجير أهالى غزة خارج أراضيهم لا لمساعدتهم -فهم أرحم كمهاجرين حتى لأوروبا من عودة السرطان القديم- وتفريغ القطاع لتوسيع دولة المحتل.
أستطيع أن أقدم مئات السرديات وعشرات السيناريوهات، غير أنه لا زيف فيها ولا خداع كما تفعل إسرائيل ووكلاؤها وآلتها الإعلامية، ولتسألوا إبليس وأبناءه.. فلن ينفوا الحكاية.
هناك صورة مشهورة للتدليل على كيفية تزييف الحقائق، حتى التى تراها العين، إذ يظهر داخل كادر الصورة ما يبدو أنه آلة حادة أو نصل سكين موجَّه إلى صدر رجل، لكن بتوسيع اللقطة وإظهار باقى المشهد خارج الكادر الضيق يتضح أن ما كنا نظنه سكيناً ما هو إلا حذاء مدبب لضحية أطلق العنان لقدميه وهو يفر هارباً ممن يجرى خلفه يريد قتله.. حتى الصورة قد تُحوِّل القاتل إلى ضحية والضحية إلى قاتل.
حاولت إسرائيل أن تفعلها مع مصر كثيراً، اتهمتها بتهريب الأسلحة للفصائل الفلسطينية عبر أنفاق سيناء، فيما شاءت الأقدار أن تكون مصر قبلها مضطرة إلى إغلاق وتدمير كل الأنفاق فى سنوات حربها على الإرهاب.. اتهمتنا إسرائيل بإغلاق المعبر فى وجه المساعدات بينما شاهد الأمميون والدوليون فى سيناء احتشادها على البوابات بعشرات الآلاف من الأطنان تواجه المنع والتعنت على الجانب الآخر للمعبر من قوات الاحتلال.
والآن تتهمنا إسرائيل بإفساد الصفقة.. فلتتهمنا إسرائيل بما تشاء، فكل تُهمها شرف وأوسمة ونياشين على صدرنا المُكلل بنصر أكتوبر.. ولكن ما يزعجنى هم المزايدون على مصر والجاحدون فضلها من داخلها وفى محيطها.. وهؤلاء أسالهم: هل هناك مَن بذل الدماء والأرواح والأموال وجاب الأرض طولاً وعرضاً، وحارب وسالم وتفاوض ودافع عن الحق الفلسطينى والأرض العربية مثلما فعلت مصر؟.. والسؤال الأهم: ماذا لو لم تبذل مصر كل ما بذلت واهتمت بنفسها وأمنها فقط.. هل كانت القضية لتصمد؟ هل كانت المنطقة ستبقى عربية؟ هل كنا سنجد من يُحيى ذكرى النكبة وينفخ الروح من جديد فى رحم الأزمة فتتمخض عن حُلم للعودة فى دولة مستقلة؟
الإجابة واضحة لا لبس فيها ولا خداع لو كنتم تعقلون!