هناك أزمة ثقة يجب أن نعترف بها ونفهمها فى ما يتعلق بالسينما المصرية، ناتجة عن التصورات المسبقة حول الطريقة التى تنتج بها الأفلام.
الصورة الذهنية عن السينما «التجارية» السائدة هى أنها بلا عقل أو مضمون، لا تهدف سوى إلى التسلية والترفيه الخفيف، بينما الصورة الذهنية عن «الأفلام الفنية» أنها تخدم «أجندات» سياسية أو إنتاجية بعينها، وقد وجّهت هذه التهم إلى قامات بحجم يوسف شاهين وشادى عبدالسلام وصلاح أبوسيف وتوفيق صالح، ثم مخرجى «الواقعية الجديدة» فى الثمانينات، وكثيراً ما اندلعت المعارك والمناظرات بين التيارين على صفحات المجلات والجرائد ووسائل الإعلام منذ نشأة السينما فى مصر.
ورغم أن العناصر «الشعبية» تنال قدراً كبيراً من الاهتمام لدى صناع هذه السينما، بينما يهتم صناع الأفلام الجادة والفنية عادة بالمضمون السياسى والاجتماعى الذى يثير الجدل، لكن الحقيقة أن الهوة بين النوعين لم تكن كبيرة مثلما هو الحال الآن، ولطالما كان هناك منتجون وكتاب ومخرجون قدّموا روائع فنية رفيعة ضمن شروط الصناعة والسوق، وقد استمر هذا الوضع بشكل أو آخر حتى تسعينات القرن الماضى.
ولكن مع انتشار ما يُعرف بـ«السينما المستقلة» وظهور معادلات إنتاج جديدة تعتمد على الدعم والتمويل من مؤسسات ثقافية وفنية أوروبية وعربية زادت الفجوة والشكوك والاتهامات بين ممثلى النوعين.
نحتاج أول ما نحتاج إلى تجسير هذه الهوة بمزيد من تقبّل الآخر ونبذ الشكوك وسوء الظن المسبق، وإلى تبادل التعاون فى أعمال تنشد الجمهور كما تنشد الوصول إلى المهرجانات والتوزيع العالمى.
يمكن أن نلاحظ هذه المشكلة بوضوح فى الأفلام المصرية، التى حقّقت نجاحات دولية كبيرة، لكنها لم توزّع فى مصر، أو وُزّعت على نطاق ضيق، باعتبارها أعمالاً فنية غير جماهيرية، كما لو كانت «مصابة بالجرب»!
كما يمكن ملاحظتها فى النقاشات التى دارت خلال اختيار الفيلم المصرى الذى يرشّح لأوسكار أفضل فيلم أجنبى، فقد تبادل مؤيدو «السينما التجارية» ومؤيدو «سينما المهرجانات» الاتهامات.
ولعل الخطوة الأولى فى حل هذه المعضلة هى ضرورة فهم الفارق «الفنى» بين النوعين، وعدم خلط الأجندات السياسية والمصالح الخاصة فى هذه المناقشات.
من الضرورى فى هذا السياق أن نفهم جيداً أن وظيفة الفن ليست الدعاية بل الكشف، وليست الوعظ بل الإيحاء، وأعظم الأفلام فى تاريخنا وتاريخ العالم هى التى تناقش قضايا إشكالية وتعرى مناطق مسكوتاً عنها، وتنقد سلبيات لا يرغب المحافظون عادة فى الحديث عنها، ولنا فى قوائم الأفلام الحاصلة على الأوسكار والجوائز العالمية الكبرى خير أمثلة على ذلك.
علينا أيضاً أن نفهم أن هناك فروقاً فى الثقافة يجب أن نتقبل وجودها، حتى لو اختلفنا معها، فالحديث عن المهمّشين بأنواعهم لا خلاف عليه، ولكن الخلاف حول بعض أنواع هؤلاء «المهمّشين»، مثل المثليين والمهاجرين والأقليات العرقية والدينية، وطالما ظلت الحساسيات ملتهبة تجاه هذه القضايا، فسوف يستمر الخلاف قائماً حتى يستطيع المجتمع نفسه أن يعالج هذه الحساسية.