قال لى بنبرة جادة وهادئة وكأنه يتحدانى: لا أعتقد أنكِ كنتِ ستَقْبليننى صديقاً إن كنتِ قابلتِنى مِن قَبْل.
كان قد أدار ظهره تماماً للمنظر الذى تطل عليه شرفة هذا المنزل الفاخر الذى كنا قد دُعينا إليه مع مجموعة من الأصدقاء من فئات اجتماعية وعملية مختلفة لا يجمعنا شىء سوى رغبة كل منا فى معرفة الآخر.
صاحب الجملة صديق ذو منصب رفيع جداً فى المؤسسة الأمنية الرسمية بالدولة التى أعيش فيها. لا أنكر أن الصدق فى هذه الجملة أخذنى أيضاً، فأجبته مبتسمة: ما أنت عليه الآن يا عزيزى ما هو إلا نتاج ما كنت عليه من قبل، وما نحن جميعاً إلا مجموعة من التجارب الحسنة والسيئة، كل منها يصنع جزءاً فى الصورة النهائية لشخصية كل منا. ألا تشاركنى فى ذلك؟
أطرق برأسه مفكراً وقال وكأنه يحدّث نفسه: بلى.. بلى جداً، معك حق.. كيف لم أفكر هكذا من قبل؟!
لو تعلم يا صديقى الطيّب كيف حملنى حديثنا هذا إلى حديث آخر جمعنى بهذا الشيخ والداعية المغربى الشهير، الذى يسير وراءه المغاربة أياماً وليالى يقتفون أثره، مرة عندما كان مغالياً إلى حد التكفير، ومرة أخرى عندما أعلن توبته ووسطيته. قال لى بانفعال شديد جداً ونحن نناقش موضوع الحريات فى مناظرة حية على الهواء فى إحدى الفضائيات الشهيرة: نعم، أنا كنت تكفيرياً جهادياً لا أعرف سوى الغلظة والقسوة فى الأحكام، وإن سألتِنى عن هذا الشخص سأقول لك إنه مات، وإن عاد إلى الحياة مرة أخرى قتلته بيدى ألف مرة.
يا الله!! لقد اتخذ هذا الشيخ من اعترافه دفاعاً قوياً فجاءت جملته رنانة تخدر القلب وتوقظ فى العقل علامات الاستفهام.. مما دعانى لتأملها مرة أخرى.
نعم، أراد الرجل أن يخبرنى أنه تصالح مع ماضيه واعترف بأخطائه فأخرجها للنور على سبيل التفاخر بما آل إليه حاله الآن..!!
سأخبركم بشىء.. أنا لا أعرف تحديداً كم شخصاً قابلت فى حياتى وصل إلى هذه المرحلة، استطاع أن يخرج ماضيه من الصناديق المغلقة ويضعه أمامه على الطاولة ويواجهه بلين ويتحدث إليه.
أنا أوقن أن أياً كان ما عشناه فى طفولتنا من ألم، ومن سعادة، وأياً كان ما تحمله ذكرياتنا بحق مَن استخدم سلطته فى قهر أو إثابة، فإن هذه الأشياء علمتنا كثيراً.
وعندما نتذكر مرحلة المراهقة وما مُنعنا منه وما حُملنا عليه، وكيف أخطأنا واكتشفنا وتهنا وفجرنا وتبنا أيضاً، سنبتسم لأنها لم تترك فينا القليل لنواصل به حياتنا. لقد آن الأوان أيضاً لنتصالح مع تجاربنا العاطفية التى فشلت لنسمح لقلوبنا أن تسعد بما تعيشه الآن.
وستعرف يا صديقى أنك شفيت وتصالحت مع ماضيك عندما تجلس إلى عائلتك فى المساء وتتذكر معهم ما كان منك قبل سنوات لتتندر به وتضحك عليه معهم، وعندما ستتحدث إلى أصدقائك عن ماضيك بلا خجل، ستعرف حينها أن الماضى لم يعد يخيفك كما كان، وستدرك كم برئت من هذا الوجع الذى كان فيه.
فالفشل والخطأ والفقر والضعف يا صديقى الطيّب لم يكن عيباً، فكلنا عشناه، ونعيشه.. وما هذه الأشياء إلا مراحل مرت وستمر لتحمل إلينا النجاح والصواب والغنى والقوة.. فالضد يا عزيزى سيعرفك كيف مذاق الضد عندما يجىء.
ولا تنسَ أن تجلس إلى أبنائك أيضاً، وأخبرهم بتجاربك، لا لتختصر عليهم المسافة بالخبرة فقط ولكن لتعلمهم أننا جميعاً إنسان يصيب ويخطئ وأنه ليس هناك ما يدعو للخجل فى تجاربنا أياً كانت.
شاركهم أيها الطيّب أزماتك التى مررت بها أو الأحداث الصعبة التى تعيشها الآن، وستجد أنهم فخورون بك أكثر، وداعمون لك أكثر.. ومحبّون لك أكثر.
أنت تستحق أن تعيش كلّك فى النور بوجهك الحقيقى بينك وبين نفسك، وبينك وبين الآخرين.
وتذكّر أن ما تعيشه الآن أيضاً سيأتى عليك اليوم لتخرجه من الصندوق أيضاً وتضعه أمامك على الطاولة لتبتسم فى وجهه وتشكره أنه علّمك ووضع قطعة جديدة فى لوحة شخصيتك.