ألقت بى فى ساحة شعبة الإخوان، وسمعتها تسترجى بكرشة نفسها النقيب: اكسر رقبته... بخة الشياطين ده... هدّ حيلنا وتوّهنا السبع توهات.
كنت أقف أمام النقيب، أشد وسطى بذيل جلبابى ناظراً بعتاب لجدتى على فعلتها الشائنة، عندما جاءت ضربة جريدة النقيب فى لسعة حامية ألقت بى بجوار الجدار، حدجنى بعين عوراء محذراً: اهمد عندك من غير شوشرة لاخد عمرك، من يومها أصبحت أحد الأعضاء المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين. ما حيّرنى هو ذلك العبوس الهائل على وجه النقيب.. مرة ضبطنى أتأمل وجهه فنهض وخنقنى وصرخ فى وجهى: بتبص على إيه؟!.
بدا الأمر لى مخيفاً من قسوة معاملة النقيب الذى كان يصرخ فى وجوهنا: أنتم جنود الله.. أنتم تحمون أمة بكتاب الله وسنة رسوله.
فى مرة رآنى أحمل رواية «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ، وحين سألنى إيه ده؟.. أجبته: قصة. سألنى: لمن؟ قلت: لنجيب محفوظ. فى اللحظة انتزعها منى وألقاها على طول ذراعه وصرخ فى وجهى إياك من هذه القصص وإياك من هذا الكاتب.
تنازعتنى مشاعرى، بين كراهية النقيب وقسوته، وبين انضمامى لجماعة الجوالة التى كنت أحبها. هؤلاء الذين يلبسون ملابس من الكاكى، ويلفون حول رقابهم مناديل خضراء وعلى رؤوسهم طواقى غريبة الشكل.
وحين انضممت لهم كنا نقف فى عز البرد بالليل حتى الفجر ويأخذوننا لنزحف فى الأرض المحروثة، ثم يلقون بنا فى نهر النيل بالليل، وكنت أنتفض من الرعب وأنا تطاردنى العفاريت فى غياهب النهر!!
كان حظى أسود من قرن الخروب مع النقيب الذى اختارنى فى أسرة خالد بن الوليد.. قراءة بالنهار وتدريب بالليل.. غلمان فى مثل سنى يُختارون ولا يفهمون، وأنا أعانى من سطوة الرجل وجبروته، وأسمعه يصيح فينا: الإسلام عاوز رجال.. وتربية الرجال تبدأ من أعماركم.. وأشار ناحيتى أنا بالذات.
- أنت يا بخة العفاريت أشوفك بالليل فى الشعبة.. . ألوذ بالصمت، أسيراً لمخاوفى، ولا أعرف أين سينتهى أمرى؟! حضرت إلى الشعبة بالليل.. كانت مضاءة على الآخر، تزدحم بالإخوان، وصوت الترتيل يكسر صمت القرية.. كلهم هنا الليلة صغاراً وكباراً، وعندما سألت أجابونى: هذا يوم الإمام الشهيد، وحين استفسرت عن ذلك الإمام، صرخوا فى وجهى: حسن البنا يا جاهل.
قال:
- الليلة اختبار للشجاعة.. شجاعة صناعة الرجال.. أعرفكم أنه هناك تحت جميزة السحيتى كتاب مدفون وإحنا اخترنا من يحضره - وأشار ناحيتى. بالليل سوف يذهب، يحضر ويطلع الكتاب.
سقط قلبى فى قدمى، ودارت الدنيا بى، وخرست أبحث عن ريقى الذى جف، حتى نظر لى مولانا ساخراً:
- مالك.. خايف؟!
قاومت:
- لأ... بس أصل الجميزة يعنى.. يعنى.. بعيدة.. والليل أصله..
- أصله إيه؟! هاتروح يعنى هاتروح.
قُضى الأمر، ورحت، وكانت مرواحة يعلم بها الله سبحانه!!
كنت أسير على شاطئ النهر، تخايلنى الأشجار، والليل حولى مثل الكفن، وصرخة طائر شارد تربكنى، وصور قديمة، حكايات ناس روعونى بها عن هذا المكان وجميزته، حيث يخرج العفاريت من النهر وينصبون حلقة ويغنون أيام الفيضان «عروسة يا عريس».
وصلت الجميزة، وحفرت، وأخرجت الكتاب.
نفضت عن الكتاب التراب، وما إن تهيأت للعودة إلا ورأيت مارداً يخرج من بين الشجر.. كان طويلاً، جسيماً، ملثم الوجه وعلى رأسه عمامه هائلة.. خطا نحوى فارداً ذراعيه كمن يطلب الكتاب.... تحدر البول بين فخذى، وصرخت يا ألطاف الله، وأسلمت ساقى الريح.. كنت أعدو بعزم غلام يطارده مارد، وأنا أضم الكتاب لصدرى وأمعن فى العَدْو، يضربنى هواء الليل.
شعرت بلهاث خلفى
لاحت لى فوانيس البلد، وبعض أصوات ابن آدم تتمخض وهى تباشر وضوءها عند الميضة.
وصلت الشعبة فقابلنى الحضور بالهتاف والصياح والتصفيق!!
مرقت داخلاً أحمل على صدرى الأربعين النواوية بخطوطها الذهبية وغلافها المقوى، دخل المارد ورائى وهو يلهث وعلى أول مقعد أمامه جلس.
أزاح لثامه.. كان الشيخ النقيب الذى أذاقنى المر.. صرخت من المفاجأة، وهو أشار ناحيتى:
- قطع نفسى الله يقطع نفسه.
- فهمت أنه كان اختباراً لشجاعة الغلام الذى أقسم بينه وبين نفسه ألف مرة وبضمير مستريح بعد اليوم أنه لن يدخل للإخوان شعبة بعد تلك الأهوال التى جرت له بسبب من غشامة جدة عجوز، ونقيب أعور لا يتقى الله!!