فى وقت كان كثيرون يتحدثون عن اجتياح إسرائيلى منتظر أو محتمل لجنوب لبنان، قفزت تل أبيب إلى خيار آخر وهو اغتيال فؤاد شكر، الرجل الثانى فى (حزب الله)، ثم إسماعيل هنية الرجل الأول فى (حركة حماس)، ولم تفصل بين الحادثين سوى ساعات، وكأنهما سيناريو سابق التجهيز، يمثل بديلاً عن عمل عسكرى آخر، كان على الجيش الإسرائيلى أن يقوم به، لكن حساباته جعلته يتردد أو يتريث أو يعيد النظر فى هذا المسار برمته.
فقبل هذين الحادثين كانت إسرائيل تحشد قواتها فى اتجاه لبنان، ويتحدث قادة جيشها عن عملية عسكرية واسعة النطاق، تُبعد حزب الله إلى شمال نهر الليطانى، وكانت هناك أربعة عوامل ترجح اجتياح الأراضى اللبنانية هى:
1- الهروب إلى الأمام إثر التوعك فى غزة، حيث يواجه الجيش الإسرائيلى «حرب عصابات» تشنها المقاومة ضده فى كل مكان فى القطاع، بما يجعل نزيفه مستمراً ومؤلماً، ويضعه على باب هزيمة أو تعثر شديد فى إحراز نصر، وهى مسألة سيكون لها بالغ الضرر من الناحيتين التكتيكية والاستراتيجية على إسرائيل، بوصفها أشبه بـ«معسكر كبير».
2- إطالة أمد الحرب وفق ما يريد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، واليمين المتطرف المتحالف معه، خشية السقوط السياسى المدوى، والمحاسبة، إذا وضعت الحرب أوزارها، ليس على إخفاقه، وقادته العسكريين، فى السابع من أكتوبر 2023، ولا عن الفشل فى إدارة الحرب الدائرة على النحو الذى يريده الإسرائيليون، لكن على فساد إدارى ومالى كان يواجهه من قبل.
3- العمل على أن يستعيد المستوطنون، الذين نزحوا إثر الضربات المتوالية التى تقوم بها المقاومة اللبنانية للأراضى المحاذية للبنان من اتجاهين داخل إسرائيل، أمنهم المفقود، ويعودوا سريعاً إلى أماكنهم، ويستردوا مع هذا الشعور بالثقة فى الجيش، والتى تزعزعت منذ «طوفان الأقصى»، وانكسرت معها معادلة الجيش القادر على الحماية بلا حد، أو الجيش الذى يجب التعويل عليه بلا حدود.
4 محاولة جر الولايات المتحدة الأمريكية إلى انخراط أكبر فى المعركة، بحيث لا يقتصر دورها على تقديم السلاح والذخيرة والمعلومات والتخطيط والدعم الدبلوماسى والسياسى والمالى، إنما تكون شريكاً كاملاً فى عمل عسكرى واسع النطاق يحقق الهدف بعيد المدى لإسرائيل وحلفائها، وهو تعويق القدرات العسكرية لإيران خصوصاً فى المجال النووى. وتراهن تل أبيب هنا على أن معركة شاملة مع حزب الله ستدفع إيران إلى عدم الاكتفاء بالمناوشة من بعيد، أو الاكتفاء بردود محسوبة، وهنا سيكون على واشنطن أن تتدخل.
وقد لمس الكاتب الأمريكى، المتحيز لإسرائيل، توماس فريدمان هذا، فقال صراحة فى مقاله الأخير بصحيفة «نيويورك تايمز»: «من واقع خبرتى فى تغطية الأحداث فى الشرق الأوسط فإن الحرب الدائرة حالياً يمكن أن تجر إليها الولايات المتحدة الأمريكية عما قريب».
لكن السؤال: ما الذى منع وقوع الاجتياح، رغم أن الحكومة الإسرائيلية كانت تلح فى طلبه على الأقل أمام المستوطنين الذين يضغطون للعودة إلى أماكنهم؟
يمكن ابتداء أن يقال إن إسرائيل لم تكن جادة فى تنفيذ الاجتياح، لاسيما أن الولايات المتحدة لا ترحب به، ولوّحت به فقط للضغط على أعصاب المقاومة اللبنانية، كى تدفعها إلى تقديم تنازلات، حتى لو كانت وقف الضربات على إسرائيل وفق ما تسمى «قواعد الاشتباك المتعارف عليها» أو التركيز فقط على مزارع شبعا، وفق مبدأ «حق الاسترداد» الذى تفعله المقاومة، وليس الابتعاد إلى ما وراء الليطانى حسبما تريد إسرائيل.
لكن منذ متى كان امتعاض واشنطن أو ترددها يثنى إسرائيل عن تنفيذ ما تريده إن كانت تضمن أنه لصالحها؟ فتل أبيب طالما نفذت أعمالاً عدوانية محددة ومحدودة، حتى خلال الحرب الراهنة، من وراء ظهر واشنطن، وعولت على أن الأخيرة لن يكون أمامها فى النهاية من سبيل سوى الموافقة، بل المباركة، والتبرير، وإن كان هناك لوم أو عتاب، فلن يغير من الأمر شيئاً.
ونكمل غداً إن شاء الله تعالى