يجعل الإسلام المال هو «مال الله»، وهو هنا لا يعنى السيولة النقدية فقط، بل كل عناصر الإنتاج من أرض أو موارد طبيعية وعمل ورأس مال وتنظيم. وهو فى الوقت نفسه مال الناس بحكم استخلافهم: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (الحديد: 7).
فالله جعل ملكية الرقبة، وهى الملكية الحقيقية، له سبحانه وتعالى، وجعل للإنسان ملكية المنفعة، وهى ملكية محققة لمقاصد الاستخلاف فى هذه الأموال، وذلك حتى ينفتح الباب دائماً وأبداً أمام حركة الدفع الاجتماعى، ويتعزز موقف أنصار العدل الاجتماعى كى يعيدوا أوضاع الامتلاك والاختصاص والحيازة فى الأموال إلى درجة التوازن.
ونقطة العدل التى تنفى الخلل والظلم، فإن غدا المال «دُولة بين الأغنياء»، جازت، بل وجبت، إعادة التوازن بين الفرقاء، بتأسيس التفاوت بينهم على المشروع من الأسباب، والحلال من الثمرات، وتكافؤ الفرص، وتقدير الجهد المبذول.
وفى نطاق المستخلفين وجدنا القرآن يضيف مصطلح المال إلى ضمير الجمع فى سبع وأربعين آية، بينما لم يضفه إلى ضمير الفرد سوى فى سبع آيات فقط.
وقد عالج القرآن، وبعده الفقه، الكثير من الأسباب التى تؤدى إلى الفقر والعوز والاحتياج والإملاق، ومنها الذاتى مثل الكسل والجهل والتبذير، ومنها الطبيعى، وهو ما يترتب على وقوع كوارث كالسيول والزلازل والبراكين، ومنها الاجتماعى والاقتصادى، مثل قلة الإنتاج، وسوء التوزيع، واضطراب وسائل التكافل والإحسان.
ونظر الإسلام إلى الفقر على أنه ليس مشكلة قائمة بذاتها، إنما ذات طابع اجتماعى، لم يكتفِ فى علاجها بالبكاء على حال الفقراء البائس، ولا بإسداء النصائح إليهم كى يتحملوا وإلى الأغنياء كى ينظروا إليهم بعين الإشفاق، إنما وضع الإجراءات، ومنها توفير فرص العمل، وحق تملك الأرض التى تم إحياؤها بعد موات، ودفع الزكاة والصدقات بوصفها «ضربية فى عنق الأغنياء للفقراء»، وحرّم كل ما يؤدى إلى الافتقار، مثل الربا والغش والاحتكار والاكتناز والترف والإسراف ولعب القمار والسفه.. إلخ.
فتحريم الربا ناجم عن أنه يسبب العداوة والبغضاء بين الأفراد، ويقضى على روح التعاون، حين يصنع طبقة مترفة تتضخم الأموال فى يدها دون تعب، وطبقة تتعب وتكدح وتعيش فى فقر مدقع، وهذا يناقض منهج القرآن الذى يدعو إلى الجد فى العمل، ويجعله أفضل وسيلة من وسائل الكسب.
أما الاحتكار فيؤدى إلى حرمان الناس من الحصول على ما يريدون من احتياجات، ويعطى المحتكر فرصة كى يغالى فى السعر كيفما شاء، ويجنى ثمار طمعه وجشعه أموالاً يكنزها، فيزداد التفاوت بين الطبقات، ويتفشى الحقد والغبن والحسد، ولهذا ربط الرسول الاحتكار بسوء الاعتقاد حين قال عليه الصلاة والسلام: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه».
وفى الغش نُسب إلى الرسول: «من غشنا فليس منا»، وهذا أمر مفهوم فى إطار الآية التى توعدت هؤلاء بالويل والثبور: «وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» (المطففين: 1/3).
وتحريم الرشوة مرده إلى أنها تزيد من الفساد الاجتماعى، حين تمنع أى فقير مجتهد من الحصول على ما يستحقه من فرص، وتخرب ذمم من بيدهم تسيير أمور الناس الحياتية. ولهذا يُنسب للرسول: «لعن الله الراشى والمرتشى والرائش بينهما».
ويريد القرآن السلوك الاقتصادى للفرد منا أن يكون متوازناً ومعتدلاً، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا» (الفرقان: 67). ويقول أيضاً: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» (الإسراء: 29). وهناك أحاديث منسوبة للرسول تؤكد هذه القيمة، ومنها:
«ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».
«الاقتصاد نصف المعيشة، فما عال من اقتصد».
«بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه».
أما التوازن فى العمل والكد وبذل الجهد فتعكسه أحاديث أخرى منها: «إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» و«ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد».
ونكمل غداً إن شاء الله تعالى.