غالباً ما أستغل الوقت منذ اللحظة الأولى لجلوسى على مقعد الطائرة فى العمل، فلست مثل هؤلاء المحظوظين الذين يستغلون ساعات سفرهم الطويلة من دولة إلى أخرى فى النوم، فلم يكن سهلاً علىّ أن أستدعيه يوماً. نعم، لذا قد تعودت أن أفتح أوراقى وأبدأ منذ لحظة الإقلاع وحتى إشارة الهبوط، ولا أذكر يوماً أنى انتبهت إلى من يجلس إلى جوارى، فغالباً هذه الساعات أنفرد فيها بنفسى لا شريك لى. أحياناً أيضاً أتحول إلى القراءة، فهى حبيبتى الأولى التى تؤنس طريقى فأعيش معها حتى أصل إلى وجهتى. ولكن هذه المرة كانت ساعات سفرى ثقيلة.. فقد عدت من رحلتى إلى عاصمة الضباب بكمية من الضباب المماثل فى قلبى وعقلى، فعلامات الاستفهام التى أبت أن تتركنى لأعمل لم تكن رحيمة بى بالفعل.. وكالعادة كلها حول أمور مستقبلية وقرارات مصيرية -ومَن منّا لا تجهده مثل هذه الأمور حين تجىء دفعة واحدة؟- فقررت أن أنفصل قليلاً عن هذا العالم الواقعى وأُمضى جزءاً من ساعات سفرى الطويلة فى مشاهدة فيلم على الشاشة المثبتة أمامى على المقعد. حالفنى الحظ فاخترت فيلماً للمبدع ويل سميث اسمه «بعد الأرض»، ومن حسن الحظ أيضاً أنه كاتب وبطل هذا الفيلم. هذا الرجل تبهرنى أفكاره حقاً، تماماً كما يفعل بى أداؤه. تسمّر عقلى أمام إحدى العبارات فى الفيلم وكأنها جاءت لتصارع كل علامات الاستفهام التى أفسدت علىّ صفوى منذ قليل.. «لا يوجد شىء اسمه الخوف.. هى مجرد أفكار سيئة عن المستقبل الذى قد لا يقع أبداً». كدت أقفز من مقعدى.. نعم يا سيدى، فقد وجدتها.. «هى أفكار سيئة عن المستقبل الذى قد لا يقع أبداً».. نعم «الذى قد لا يقع أبداً»! ما أكثر منطقية هذه الجملة وما أجملها، لماذا نجهد أنفسنا إذَن فى انتظار ما قد لا يجىء أصلاً؟! لماذا نستبق الأحداث بكل هذه التوقعات السيئة؟! ولماذا نستقبل أيامنا المقبلة بكل هذا الخوف حتى قبل أن تأتى؟! ليس من العدل أبداً يا صديقى أن نفعل ذلك بأنفسنا، أن نترك القلق من المستقبل يستبدّ بنا ويمارس فى واقعنا كل هذا العبث ونحن نستسلم له. لا أعرف لماذا قفزت إلى ذهنى أيضاً إجابة أحد الاستشاريين النفسيين الذى حل علىّ ضيفاً فى أحد برامجى فى أثناء فترة عملى بالتليفزيون المصرى، حين قال لى: «علينا أن ننتبه إلى أفكارنا حول أطفالنا أيضاً، فمثلاً عندما تقولين له وهو يحمل كوب الماء: (انتبه؛ سيقع منك).. فاعلمى أنك أعطيتِه أمراً غير مباشر حتى يُسقط الكوب، فهو فعلياً لم يكن ليسقطه لو لم تفكرى هكذا وتقولى له هذه الجملة، نعم.. فقد علق بذهنه فقط فعل (الوقوع).. غيّرى أفكارك عنه وستتغير أفعاله بالتبعية». هكذا قال ضيفى، فهل يكون الأمر هكذا فى كل ما فى الحياة يا سيدى؟! ليس علينا سوى ألا نستدعى الأفكار السيئة حتى لا تحدث.. أليس من الأجمل إذن أيها الطيّب أن نستمتع بواقعنا وبهذا اليوم الذى بالتأكيد لن يتكرر فى حياتنا؟ لن أخفيكم سراً أن هذا الذى أقوله الآن يعارض تماماً ما كانت تكرره صديقتى التركية: «علينا أن نتوقع الأسوأ حتى لا تصدمنا النتائج فى النهاية». كثيرون صدّقوا على كلامها.. أما أنا.. فأنا فعلاً أعتذر منكِ يا عزيزتى، فأنا لا أشاركك الرأى ولا أرغب فى أن أعمل به فعلاً، ولن أتحدث عن المستقبل إلا بما أحب أن يحدث فيه، سأستدعيه إلىّ بقلبى وعقلى فيأتينى طائعاً كما أحب. أما أنت يا صديقى المجهد، فاستمتع بكل لحظة تمر عليك وأنت سالم معافى. ألسنا فى حاجة إلى هذا فعلاً؟! عش كل يوم كأنه آخر يوم، فما يدريك بالمقبل؟ ولا تنسَ أبداً أن فى هذا اليوم ما يستحق أن تعيشه. أما الغد يا عزيزى فلا داعى لأن تقلق به، فللغد رب يرعاه.. وبك وبى من القوة والرغبة فى الحياة ما سيجعله أجمل ما دمنا نستحق.