تُعد الكرامة هى القيمة الأسمى فى المسيرة التى يقطعها الإنسان فى سبيل التحقق والإنجاز، إذ تقع منهما موقع القلب من الجسد، وأحياناً تكون بمثابة القدمين اللتين يسير بهما هذا الجسد فى مختلف الاتجاهات، متنقلاً نحو مقاصده وغاياته. فمن الكرامة تولد الحرية والهيبة واحترام الذات واستحسان التعزيز الإيجابى والثناء، وهى قيم وأحوال نفسية ضرورية لبناء شخصية الآدمى عامة، وتحديد مسيرته ومصيره، وشخصية المناضل على وجه الخصوص، وترسيخ اختياراته وانحيازاته.
والكرامة ليست كلمة تلوكها الألسن باستمرار، من دون إدراك معناها ومغزاها، أو العمل من أجل تحصيلها والتمتع بحضورها ووجودها، بل هى قيمة تتحقق حين تتوافر الشروط التى تؤدى إليها، وينتظم السلوك المترتب عليها، ويكتمل الشعور بها لدى الفرد والجماعة. ولا تحل الكرامة بمجرد تكرار اللفظ الدال عليها، أو المفاهيم المنبثقة منها، ولا بمجرد الإلحاح على ضرورة الشعور بها، بل تأتى طواعية، مرتبطة بأفعال لا تتحقق من دونها، ثم تنمو داخل النفس الإنسانية، حتى تلتصق بها، وتتوحد معها، إلى الدرجة التى يعتقد فيها الإنسان أن الكرامة هى التى تحدد ما يقبله وما يرفضه، وما يروق له ويحبه، وما يلفظه ويكرهه، كما تحدد نظرة الجماعة إليه، وموقعه فى سلم الإنسانية، إلى حد يؤمن عنده بأن الموت أفضل من حياة بلا كرامة.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان فى أحسن صورة وحال: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»، وكرَّمه على سائر المخلوقات: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».
وهذا التكريم يتوجب أن يحصل عليه الإنسان لإنسانيته، بغض النظر عن دينه وعرقه ولغته وأيديولوجيته ووضعه الطبقى ولون بشرته، فالآية القرآنية واضحة فى هذا الشأن ولا تحتاج إلى أى تأويلات معوجة، فهى تتحدث عن «تكريم بنى آدم»، وتساوى بين أبناء البشر فى ذاتيتهم الإنسانية. ومن ثم فإن أى مقولات تسعى إلى تجزئة كرامة البشر التى منحها الله إياهم، أو تحاول أن تخصها فى أتباع ديانة بعينها، أو فى المؤمنين من دون غيرهم.
ترتبط كرامة الإنسان فى القرآن بثلاثة أمور مهمة، الأول هو أن الإسلام يقر خلافة الإنسان لله: «وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة» (البقرة 30) والثانى هو أن الإنسان يحمل الأمانة من قبَل الله سبحانه وتعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (الأحزاب 72).
أما الثالث فيتعلق بعدم وجود أى حائل بين الإنسان وربه فى الإسلام، فهو دين لا يعرف وساطة بين الأرض والسماء، ولا يعرف الكهنوت، ويقر بوجود رباط وثيق بين الله و الإنسان، وهو ما تعبر عنه الآية الكريمة: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (الأعراف 172).
ونكمل غداً