أول الاتجاهات التي يصنعها شعور الإنسان بالكرامة هو حيازته «الاقتدار السياسي»، الذي يبدأ بتقدير الذات Self Esteem، وهو يقوم على حكم الفرد على أهميته الشخصية، فإن رفع من قدرها، واعتز بها، امتلأ شعوراً بأهميته، وجدارته بالاحترام والتقدير، وامتلأ ثقة في صحة أفكاره وميوله. وعلى العكس من ذلك فهو إن أبخس نفسه، وحط من منزلتها، فسيتضاءل شعوره بقيمة شخصيته، وسيصاب بإحساس بأن الآخرين يلفظونة، وأنه عاجز عن فعل ما يريد. والحاجة إلى التقدير تشير إلى معنيين رئيسيين؛ الأول هو الحاجة إلى القوة والإنجاز والكفاية والتمكن، والثاني هو الحاجة إلى السمعة والمكانة والشهرة والفخر والأهمية، فإن أشبع الإنسان هذه الحاجات امتلك الشعور بالثقة، وأحس بأن له قيمة في الحياة، وليس مجرد رقم فى طابور طويل لا ينتهى، أو عالة على الدنيا.
وحيازة الاقتدار والثقة السياسية تؤدى بالإنسان إلى «المشاركة السياسية»، أي انخراطه فى الأنشطة التطوعية التي يهتم بها مجتمعه المتعلقة باختيار الحكام، وصياغة السياسة العامة، وذلك ابتداء من البحث عن المعلومات، والمساهمة في الجدل العام القائم، وانتهاء بالانخراط فى حزب أو تيار سياسي معين أو الترشح للانتخابات، مروراً بحضور الاجتماعات والتبرع بالمال، والتواصل مع الشخصيات السياسية، والمشاركة في الحملات الانتخابية. وهذا الصنف من المشاركة له خصائص تتمثل في «الفعل» الذي يعنى حركة الجماعة حيال تحقيق أهدافها ومقاصدها العامة، و«التطوع» الذى ينجم عن شعور الفرد بالمسؤولية الاجتماعية تجاه هذه الأهداف، و«الاختيار» الذي يضمن للفرد أن يساند الفريق السياسي الذي يحقق مصالحه، وصالح الوطن.
وتعد المشاركة على هذا النحو نوعاً من «المقاومة الإيجابية» لأنها تصب في التيار العام الذى يرفض الاستبداد، من خلال التمسك بمباشرة الحقوق السياسية. والفرد المشارك إيجابياً، أو المنتمي، يكون متهيئاً للانخراط فى صفوف المقاومة والدفاع عن الوطن، إن تعرض لغزو أو اعتداء خارجي.
أما ثاني هذه الاتجاهات فيتمثل فيما يؤديه الشعور بالكرامة إلى نزوع الفرد نحو التحرر والحرية، فالكفاح من أجل الكرامة يشترك في كثير من الجوانب مع النضال من أجل الحرية. وإعلاء قيمة الحرية يقود الفرد إلى مقاومة التسلط، فالإنسان المقهور يسعى لحل مأزقه الوجودي والتخفف من انعدام الشعور بالأمن، والتبخيس الذاتي الذى يلحق به، جرَّاء وضعية الرضوخ، عبر التماهى بالمتسلط والذوبان فى عالمه ونظامه، وتمثل عدوانيته وطغيانه ونمط حياته وقيمه المعيشية، ورفع مكانته، وتثمين كل ما يمت إليه بصلة، وذلك فى ظل هروب واسع من الذات، وتنكر فاضح لها، وتهرب من الجماعة، وتنصل من الانتماء إليها.
فالمقاتل الذي يحمل السلاح قد يتردى من النضال إلى ممارسة ما كان يقوم به المتسلطون عليه، وبدلاً من أن يعامل الناس بروح الأخوَّة، ويرى نفسه حارساً أميناً على حريتهم واستقلالهم، يتعالى عليهم، ويتباهى مختالاً باستعراض قوته، متمسكاً بالمظاهر، بشكل يتنافى مع الروح النضالية الحقة، التي تفرض على المقاوم أن يتطامن ويتواضع حيال الجماهير.
وكما يقول «سكينز»، في كتابه «تكنولوجيا السلوك الإنساني»، فشيوع التماهى بالمتسلط سلوكياً ونفسياً عند المقاتلين والمسلحين، يحمل أشد الأخطار على عملية التغيير والتحرير. فبدلاً من تقويض العلاقات السابقة (السيد والتابع المتسلط والراضخ) وإحلال الإخاء محلها، نلاحظ بروزاً لسادة جدد، ومتسلطين جدد، يشتطون بقدر حاجتهم للتعويض عن دونيتهم المزمنة.. وإذا بالممارسة المسلحة تتعرض للتزييف والتحوير والوقوع فيما قامت أصلاً لتغييره.
وحين يصل المقاوم إلى الحد الذى يمارس فيه نوعاً من «السادية» على محيطه الاجتماعى، يكون قد انزلق إلى الضعف الكامل. وكما يقول أريك فروم: «ليست الشهوة للقوة كامنة فى الاقتدار، بل فى الضعف، إنها عجز النفس الفردية عن أن تطيق الوحدة، وتظل حية. إنها المحاولة اليائسة لكسب اقتدار ثانوى، حيث ينقص الاقتدار الأصيل».
والنزوع إلى الحرية، القائم على الشعور بالكرامة، يحمى المقاوم من الوقوع فى فخ التسلط على الناس، والانزلاق إلى أعمال وممارسات استعراضية. فالكريم يحترم الآخرين، عن اقتناع بأن هذا هو المسلك الصائب فى الحياة، وعن رغبة فى أن يقابل منهم باحترام شديد، لأن الإهانة فى نظره أقسى من أن يتحملها، وإن جرت وتكررت فهى تمس كيانه ووجوده، وهو أمر فوق طاقة المقاوم والمناضل الحقيقى.
وثالث هذه الاتجاهات يتمثل فى إعلاء الممتلئ شعوراً بالكرامة للوجود الإنسانى أو «الكينونة»، مفضلاً إياها عن التملك، الذى يدور حول الغرائز، التى إن انصاع الإنسان لها، ورضخ لإلحاحها، صار أقرب إلى الحيوان. أما الكينونة فتسلك طريقاً مختلفة تتعبد فوق الحاجة إلى الانتماء والتعالي أو التجاوز، والحاجة إلى الارتباط بالجذور والهوية، والحاجة إلى إطار توجيهى يحكم الفهم والسلوك. والميل إلى الكينونة أو الوجود، يحمى الإنسان من التردى فى الجشع والحسد والعدوان، والانسحاق أمام المادة ومنطق السوق المتوحشة، ويمده بمتعة التجربة المشتركة، والتحلي بالقيم الإنسانية السامية، وهى حالات وأمور غاية فى الأهمية والحيوية بالنسبة للمقاوم، الذى يجب أن يكون مستعداً فى أي وقت لأن يدفع روحه ثمناً للدفاع عن القضية التي يؤمن بها.
وهنا يأتي الاتجاه الرابع الذي يرسبه الشعور بالكرامة فى نفس المقاوم وعقله، ألا وهو «الولاء»، الذى يعنى الارتباط وعياً وسعياً بمجموع الشعب، والميل إلى ما يتبناه من قيم وأفكار، وما يصبو إليه من أهداف ومصالح. ويعنى كذلك الروابط والعواطف المعنوية والقانونية التى تربط الفرد بجماعة أو مؤسسة أو وطن.
ومثل هذا الشعور يبلغ مكانة من المقاومة تماثل تلك التى يبلغها الدم من حياة الإنسان، فلا مقاومة من دون ولاء، فالمنتمى فقط هو الذى يحوز استعداداً للدفاع عن المعتقدات والمعانى والأفكار التى يؤمن بها، والذود عن الشخصيات الاعتبارية والإنسانية التى يرتبط بها.