هناك إجماع لدى الأوساط السياسية والعسكرية فى إسرائيل على أن عقيدة نتنياهو تولى أهمية أكثر للبقاء فى منصبه بعد توجيه الاتهام إليه فى عام 2019 بتهمة الاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة، والآن يجب عليه البقاء فى السلطة حتى لا يُسجن إذا أدين، من هذا المنطلق يتصرف نتنياهو بهذه العقلية المتخبطة منذ بداية الحرب على غزة، غير أن العامل الأبرز الواضح والثابت فى سياسته تجاه الحرب ولا يبدو فيه أى تردد أو تخبط، هو إصراره على استمرار الحرب بأى ثمن كان، نتنياهو لديه مصلحة واحدة وهى: بقاؤه السياسى الفورى، حتى لو كان ذلك يقوض بقاء إسرائيل على المدى الطويل، وحتى لو كان على حساب إنقاذ حياة الأسرى بخلاف المتعارف عليه فى إسرائيل بإيلاء أهمية وأولوية لأسراهم حتى لو كان الثمن باهظاً ومؤلماً بالنسبة لهم.
إن هذا يفسر العلاقة المعقدة التى تجمع الرئيس الأمريكى جو بايدن بنتنياهو والخلافات الحادة التى بدأت تتوالى بينهما، ونفاد صبر بايدن من تصرفات نتنياهو المراوغة، لقد اصطدم الرئيس الأمريكى جو بايدن بشكل مباشر بسياسة نتنياهو الذى يركز على بذل كل ما هو ممكن لتجنب أى عملية سياسية مع الفلسطينيين من شأنها أن تكسر تحالفه السياسى مع اليمين الإسرائيلى المتطرف، رغم تصاعد جبهة المعارضة فى الداخل وتصاعد وتيرة المظاهرات الشعبية التى تطالبه بإنهاء الحرب والموافقة على صفقة التبادل، والتى وصلت إلى أعلى مستوى لها يوم السبت الماضى فى تاريخ إسرائيل.
نتنياهو يدرك أن كامالا هاريس فى مأزق، فإذا استمرت الحرب فى غزة حتى (النصر الكامل) -كما يردد نتنياهو دوماً- مع المزيد من الضحايا المدنيين، فسوف تضطر «هاريس» إما إلى انتقاده علناً وخسارة أصوات اليهود، أو أن تبلع لسانها وتخسر أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين خاصة فى ولاية ميشيغان الرئيسية. وبناءً على خبرة المحلل والكاتب السياسى الأمريكى «توماس فريدمان» التى قضاها طيلة السنوات الماضية فى مراقبة نتنياهو كما يقول، «فإنه لن يتفاجأ إذا ما أقدم نتنياهو على تصعيد الأوضاع فى غزة حتى يوم الانتخابات لجعل الحياة صعبة على الديمقراطيين فى المنافسة مع الجمهوريين».
ووفق الكاتب، فإن نتنياهو ربما يفعل ذلك لأنه يريد فوز ترامب وأن يتمكن من إخباره بأنه ساعده على الفوز، حيث يعتقد نتنياهو أنه يستطيع الإفلات من الضغوط التى يتعرض لها من بايدن لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأن ترامب سوف يتعامل بـ«لطف» مع إسرائيل كما سيكون أكثر صرامة مع إيران ووكلائها، وخاصة حزب الله اللبنانى. ورغم ذلك فمن غير الواضح ما إذا كان فوز ترامب بولاية ثانية سيحدث فرقاً لصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي، خاصة أنه لم يكن مقرباً من نتنياهو خلال فترة رئاسة الأخير، كما أن نتنياهو أغضب ترامب خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، عندما هنأ بايدن بالفوز فى عام 2020.
لكن يبدو أن نتنياهو يعول كثيراً على فوز ترامب فى الانتخابات المقبلة، ففى مؤتمر صحفى عقده الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب فى منزله الشهر الماضى قال فيه إنه لم يشجع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو على الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة خلال لقاء جمع بينهما، وأضاف ترامب أنه تحدث آخر مرة مع نتنياهو وأخبره «أن يحقق انتصاره وينهى هذا الأمر». لقد كان ترامب لفترة طويلة مؤيداً قوياً لإسرائيل ونتنياهو، وزاد من تواصله مع الناخبين اليهود فى الأيام الأخيرة من خلال الترويج لدعمه للدولة اليهودية.
أخيراً لا يمكن الرهان أو التأكيد على وجه اليقين، الفرق الذى يمكن أن يحدثه فوز ترامب فى الانتخابات الأمريكية المقبلة، فالمشهد العام للحرب على غزة لم يتغير بفعل الضغوط التى مارسها بايدن على نتنياهو، وما تغير فى الحقيقة كان محصوراً بالتفاصيل المتعلقة بخفض أعداد الضحايا المدنيين وزيادة المساعدات الإنسانية وضبط النفس إزاء استفزازات حزب الله، وإيران والحوثيين.
وهذا يعنى أن فوز ترامب قد يساهم فى تخفيف الضغوط الدولية على إسرائيل، وربما تشن الولايات المتحدة حملة دبلوماسية دولية واسعة لمنع إدانة إسرائيل فى المحافل والمحاكم الدولية على حد سواء، لكن شيئاً جوهرياً لم يتغير فى المشهد العام لأن الولايات المتحدة لم تلعب فى أى وقت من الأوقات دوراً حاسماً فى إنهاء الحرب، بل كان دورها ثانوياً ومساعداً ومهدئاً بحيث لم يفض إلى نتيجة، وهذا يبقى الحرب مستمرة بفعل عوامل جوهرية أخرى متعلقة بالصراعات الإسرائيلية الداخلية، وبقدرة المقاومة على الصمود واستمرار اشتعال جبهة الشمال مع حزب الله، وهذه العوامل هى التى ستحسم مسار الحرب ومصيرها.