لم يمت الفنان الكبير نجيب الريحانى عام 1949، بل عاش إلى الآن، ذهب جسده وبقى فنه، ثم أخيراً ظهرت سيرته المكتملة عن «دار بتانة» بالقاهرة، فمن عثر عليها، وقال إن سيرته التى نُشرت من قبل كانت ناقصة، وهو الشاعر والباحث المهتم بتاريخ الثقافة الأستاذ شعبان يوسف، يتهم «دار الهلال» بأنها حذفت أشياء إيجابية عن «الملك فاروق» من تلك السيرة، بعد قيام «ثورة يوليو» 1952، وحديثها البائد عن «العهد البائد» بشخوصه وأفكاره ومقتنياته. المهم أن السيرة الآن باتت بين أيدينا، وهى لواحد من عمالقة التمثيل فى العالم العربى، مسبوقة بدراسة مستفيضة لشعبان يوسف، وملحوقة بعدد وافر من المقالات التى كُتبت عن الريحانى للكبار من أمثال عباس العقاد ويحيى حقى ونعمان عاشور ومحمد تيمور وزكى طليمات وصلاح عبدالصبور وسعد الدين وهبة وسعد أردش وأحمد عباس صالح.
انبرى «يوسف» فى دراسته تلك للدفاع عن الريحانى، ورد عنه كل قدح فيه، وفسّر أسبابه، واستشهد فى هذا على ما ذكره عنه من قدّروا له دوره الفنى، ورثوه حين غاب، ثم أضاف إليه ما وجده فى أرشيف هذه الفترة من كتابات عن الفن والثقافة والسياسة والمجتمع، ومن قريحته كناقد أدبى.
قرأت هذه السيرة وما سبقها ولحقها، ودار فى رأسى سؤال: لماذا كتب الريحانى سيرته؟ وظنى أنه فعل هذا لأسباب، ليست بخافية على كثيرين، أولها شعوره بدنو الأجل، إذ شرع فيها بينما كانت صحته تعتل وهو يمضى فى الثامنة والخمسين من عمره، وكانت علته مُضنية إلى درجة أن الأطباء نصحوه بألا يقف مرة ثانية على خشبة المسرح، أو أمام الكاميرا، لكنه خالفهم فى هذا، وكأنه يُردّد ما قاله نجيب محفوظ فى ما بعد ناظراً إلى قلبه الذى أتعبه الهوى: «والله ما أسقمنى إلا الشفاء».
والسبب الثانى هو اعتزاز الريحانى بدوره فى الحياة عموماً، وفى فن التمثيل خصوصاً، فهو واحد من المؤسسين الكبار، أعطى الفن عمره وأخذ منه الذيوع والمجد والمال، الذى كان لا يستقر فى جيبه طويلاً، فظل يتقلب بين عيشين متناقضين، ملك متوج وشحاذ بائس.
السبب الثالث هو حدس الريحانى الذى كان يدرك، على ما يبدو، أن المسرح سيضيع، وهو ما جرى بالفعل، فقد بقيت أفلام السينما، وقديمها يعانى الآن من عطب ويحتاج إلى ترميم للصوت والصورة. أما المسرح القديم فلم يتم تصويره إلا بعد ظهور التليفزيون فى مصر، وهذا كان بعد رحيل الريحانى بسنوات، وبمرور الوقت بات المسرح الجديد نفسه يعانى من إهمال، فمن يكتب مسرحية لا يجد من ينشرها، وإذا رُزق النص بمن يقوم بتمثيله فإن أغلب العروض ما إن تبدأ حتى تنتهى، لأن الجمهور تغيرت وجهته.
والسبب الرابع أن الريحانى كان يشعر بأنه شخصية خلافية، فهناك من يرفعه إلى عنان السماء، وهناك من يرميه إلى أسفل سافلين، فرأى أن يفصل هو بين الفريقين بكتابة سيرته، ليروى عن نفسه، ولا يترك هذا لغيره.
والخامس هو أن الريحانى أراد أن يُسّرِى عن نفسه بعد أن تدهورت صحته ولم يعد قادراً على الاستمرار فى فنه، وربما رأى فى كتابة مثل هذا النص ما يعوض الغياب عن خشبة المسرح وشاشة السينما. والسبب السادس هو رغبة الريحانى فى أن يُبدى عرفاناً شديداً لمن أسهموا فى صناعته كفنان، ويُبدى غبناً من أولئك الذين أرادوا أن يعرقلوا مسيرته.
صاغ الريحانى مذكراته بلغة شفاهية أو محكية، فبدا وكأنه يسامر القارئ، وهى مسألة يعرفها من عاصروا مسرح الريحانى أو شاهدوا أفلامه، إذ بدا لى أنا شخصياً كقارئ أن الريحانى يجلس إلى جانبى، وكل حرف مكتوب فى تلك السيرة تخيلته منطوقاً بلسان كاتبها، وبطريقته الساخرة، التى يمتزج فيها الضحك بالبكاء، لاسيما أن الكاتب تحدث بضمير «الأنا»، الحميم فى كتابة السير الذاتية، وأعطانا مقاطع صغيرة متتالية، أو دفقات محكية بسيطة، منشغلاً فقط بالفن وما يتعلق به، ومبتعداً إلى حد كبير عن ذكر السياق السياسى الاجتماعى الذى كان يحيط به.
(نُكمل غداً)