تضمنت مذكرات الفنان الكبير نجيب الريحانى أشياء عن تطور المسرح المصرى، وبداية ظهور السينما والمخاوف التى كانت تنتاب الواقفين على خشبات المسرح من الوقوف أمام أضواء الكاميرات، ثم علاقة الفن المصرى بالعربى، وما لعبه عرب المهجر من دور فنى فى بلاد الغربة، وكذلك بعض ما يدور فى مجتمع أهل الفن.
وهناك الكثير من الأشياء المضمرة فى هذه السيرة، والمعانى الكامنة فى سطورها، والتى من الممكن أن تفيد من يقرأها. أولها أن يسعى الإنسان خلف الهدف الذى يحلم به، ويتخفف من كل ما يعيقه، ويمتلك فى هذا روحاً متمردة، فـ«الريحانى» تمرد على الوظيفة براتبها المضمون، وتسلسها المأمون، وذهب إلى الفن خالى الوفاض، لا يعرف كيف يدبر قوت يومه، ولأنه أخلص لحلمه فقد نال ما يريد.
والمعنى الثانى هو أن يوقن الذاهب إلى هدفه بأن الحياة فيها الكثير من التعرجات، وأنها تمضى بين صعود وهبوط، وقيام وقعود، وغفوة ويقظة، والمهم ألا ييأس الإنسان فى لحظات الهبوط والقعود والغفوة.
فحياة «الريحانى» مضت على هذا المنوال، من نجاح مبهر، إلى فشل ذريع، ثم نجاح جديد، لكن الستار أسدل على حياته بعد أن كانت أسطورته الفنية قد اكتملت.
والمعنى الثالث يخص ذلك الجدل الذى يدور عن فردية الفن وذاتيته، فهنا يعلمنا «الريحانى» أن تلك الذاتية ليس بوسعها أن تجور على «الجماعية» إذ إن الفنان يتأثر بمن حوله، والممثل لا ينجح وحده، إنما حين يجد النص الجيد، والمخرج الجيد، والمصور الجيد أيضاً.
فى الوقت ذاته يمكن أن ندرك من هذه المذكرات أن رسالة الفن هى الفن نفسه، وأن المحاولات البائسة لتحويله إلى وعظ أو منشور أو أيديولوجيا تضر دوره، وتطفئ بريقه، وتُذهب عنه الإبداع والاختلاق.
أما الرابع فيتعلق بدور السلطة فى حياة الفن، وهى متنوعة بين سلطة سياسية ودينية واجتماعية، والأولى والثانية أخف وطأة من الثالثة، فالريحانى لم يضنه نقد السلطة السياسية له، متمثلة بالأساس فى الملك عبدالله عاهل الأردن الأسبق الذى لم يرق له عرض لـ«الريحانى» فى عمَّان، ولا باتهام السلطة له فى مصر بأنه ينتصر فى إحدى مسرحياته للاستعمار الإنجليزى، وهى مسألة نفاها «الريحانى» تماماً، ولم تضنه السلطة الدينية حين غضب الأزهر والكنيسة والمعبد اليهودى عليه وقت عرض مسرحية (حسن ومرقص وكوهين) لكن أضناه غضب الجمهور منه أحياناً، حين تم اتهامه بالإسفاف والسخرية من «ابن البلد» لاسيما مع مسرحياته عن «كشكش بيه عمدة كفر البلاص».
والخامس يرتبط بعلاقة الفن بالصحافة، وكيف يمكن للأخيرة أن تلعب دوراً كبيراً من خلال النقد الأمين والخلاق فى تطوير الفن، والعكس صحيح. والسادس، وهو القديم المتجدد، يتمثل فى «الملكية الفكرية» فقد وجد «الريحانى» من يقلدون الشخصية التى اخترعها وهى «كشكش بيه» فى لبنان والمهجر وحتى فى سوق روض الفرج، وكل مقلد كان يزعم أنه الأصل، وأن «الريحانى» هو من يقلده.
والسادس هو ما تعطيه المنافسة الشريفة للفن من قدرة على التطور والتجدد المستمرين، وهى مسألة ظهرت من خلال التنافس الشديد بين «الريحانى» وعلى الكسار، وكيف كان كل منهما يرد على الآخر بمسرحية جديدة يتابعها الجمهور فى شغف.
أما السابع فيخص روح مصر، التى اعتادت دوماً احتضان الغريب، ومنحه الفرصة كاملة، فـ«الريحانى» تعود جذوره إلى العراق، لكن المصريين تعاملوا معه دوماً على أنه من غرس أرض النيل.
مات «الريحانى»، الذى طالما أضحكنا وهو يخفى عنا دموعه الدفينة قبل قيام ثورة يوليو بثلاث سنوات، وقد يكون مات فى الوقت المناسب، فربما لو امتد به الأجل لطُلب منه أن يخصص مسرحياته لخدمة توجهات ضباط يوليو السياسية، وهى ما وجد غيره نفسه مضطراً إلى التساوق معها وهو مرغم.