لقد رفدنا النظام الاتصالي العالمي الراهن بالكثير من المزايا والفرص، وهذا أمر يصعب جداً إنكاره، لكنه مع ذلك، بدأ يتغلغل فى «الإعدادات الاجتماعية» للناس، ويُبدل فى أنساقهم القيمية، ويحملهم على اجتراح أساليب ممجوجة، من أجل إيجاد مكان فى خرائط الوعى العمومية، وإحراز مكانات غير مُستحقة.
وفى كل صباح، يصحو «المؤثرون الجدد»، ومعهم لاعبو كرة القدم ومحللوها، وكثير من الفنانين والمتطفلين على الفن، وبعض الإعلاميين، وأفراد من الجمهور العادى، ليفكروا فى طريقة لجذب اهتمام «السوشيال ميديا»، واحتلال قوائم «التريند».
أما جديد «الفضاء السوشيالى» فى الشهر المنصرم، فلم يكن سوى واقعة «مؤثرة السوشيال ميديا» المعروفة، التى «تسرب» لها فيديو إباحى، فسعت إلى استثماره، ليمنحها مكانة غير مستحقة، عبر تصدر قوائم الاهتمام، حتى إنها ظهرت لاحقاً على فضائية محترمة، لتفيدنا بأن هذا الفيديو جلب لها «عدداً من عروض الزواج»!
ثم جاء هذا العريس، الذى افتعل موقفاً دراماتيكاً بالمشاركة مع عروسه خلال حفل زفافه، واهماً إياها أمام العدسات بأنه بصدد التقدم للزواج من أخرى فى اليوم نفسه، لتنفجر العروس، وتختلق معركة، قبل أن يعود «المواطنون الممثلون» لإخبارنا بأنه «مقلب»، وقد قادهم بالفعل إلى ما رغبوا فيه.. «التريند».
وبموازاة ذلك، ما زالت تلك «المؤثرة الجديدة»، التى يتابعها الملايين على الوسائط المختلفة، تتاجر بخصوصيتها، وتخبرنا مرة بخلاف مع زوجها، قبل أن يتم حله، ليعود مجدداً، ويقودها إلى الطلاق، والناس تتابع بشغف، وتراقب باهتمام.
أما «مهرجان الجونة»، فقد عاد ليمارس اللعبة ذاتها.. أى الفساتين العارية، ومعها، وبسببها، تتصدر بعض النجمات، والمتطفلات على عالم الفن، قوائم الاهتمام، والسبب درجة العرى و«عدم الملاءمة» التى ينطوى عليها كل فستان.
لكن آخر تلك الوقائع كانت واقعة تتعلق بممثلة مخضرمة، تبلغ 70 عاماً من العمر، وقد رأت أن تتصدر الاهتمامات عبر حوار مع وسيلة إعلامية، ادعت فيه أنها تزوجت عرفياً لمدة عشر سنوات، قبل أن تعود وتنفى ذلك، مسوغة إقدامها على هذا الفعل، بأنها كانت «عايزة التريند».
يلقى تناول وسائط «التواصل الاجتماعى» لمثل تلك الحوادث الضوء على العديد من المشكلات؛ أولاها فكرة إرساء الأولويات الخاطئة، التى تحرف المجتمع عن قضاياه المهمة، وتأخذه إلى قضايا هامشية وربما «تافهة»، وثانيتها مسألة الاتجار فى الخصوصية، بكل ما يحمله من انتهاك لكرامة الناس والتلاعب بسلامهم الاجتماعى ونمط حياتهم، وثالثتها تعطيل مجال التواصل الحيوى الُتاح للجمهور عن الوفاء بأهم مقاصده، وتأميمه لصالح نزعات وممارسات عبثية ومأفونة.
وفى محاولة لفهم هذا الانحراف الخطير فى أداء مجال التواصل «السوشيالى»، أفادت الدراسات الأكاديمية بأن الإعلام يلعب أدواره التأثيرية فى تشكيل الرأى العام تجاه القضايا والتطورات المجتمعية، من خلال عمليات مُحددة، تأتى على رأسها عملية تشكيل إطار القضايا الحيوية.
وفى عملية تشكيل إطار القضايا، قد تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحجبه عن قضايا أخرى، من دون النظر إلى مدى أهمية تلك القضايا فى سلم أولويات الجمهور.
ويعتقد باحثون إعلاميون أن قيام الإعلام بالتركيز على قضايا تافهة أو مصطنعة، يعزز الاهتمام بها من قبل قطاعات الجمهور.
ومن ناحية ثانية، فإن وسائل الإعلام تقوم بعرض القضايا المختلفة على جمهورها بشكل مرتب تبعاً لأهميتها، ووفق نظرية «تحديد الأولويات» (Agenda Setting)، فإن «ثمة علاقة إيجابية بين ما تلح عليه وسائل الإعلام فى رسائلها، وبين ما يراه الجمهور مهماً»، ويرى بعض الباحثين أن تلك النقطة بالذات تمثل مكمن أهم تأثير لوسائل الاتصال؛ أى «مقدرتها على ترتيب أجندة الجمهور بخصوص القضايا والموضوعات المطروحة».
ورغم بعض التشكيك بقدرة تلك النظرية على توضيح التأثير المباشر لوسائل الإعلام على «الخرائط الإدراكية والمعرفية واتجاهات الجمهور حيال القضايا محل الاهتمام»، فإن أحداً لا يدحض وجود روابط بين التعرض لوسائل الإعلام من جهة، واتجاهات الجمهور نحو قضايا معينة ومدى إدراكه لها من جهة ثانية».
ظل هذا التفسير منطقياً وشائعاً فى عصر وسائل الإعلام الجماهيرية، وكان بمقدورنا أن نتهم السلطة القائمة على إدارة المشهد الإعلامى بالتلاعب لتحقيق أغراضها عبر صياغات مُغرضة وغير موضوعية للأجندات، يتم تسليط الضوء فيها على قضايا معينة بغرض التحكم فى اهتمامات الجمهور وترتيب أولوياته.
لكن فى عصر وسائط «التواصل الاجتماعى»، هيمن الجمهور على دور «حارس البوابة» (Gate Keeper)، وبات فى الموقع الذى يسمح له بالتحكم فى إطار القضايا وإرساء الأجندة، وهو عندما حظى بهذه المكانة لم يكن أفضل من الساسة المغرضين ومالكى وسائل الإعلام ذوى المصالح المشبوهة، بل هو راح يُفرط فى إرساء الأولويات الخاطئة والمثيرة للشفقة والاستياء.
وبدلاً من أن يُظهر «الفضاء السوشيالى» قدراً مناسباً من المسئولية تجاه القضايا والأولويات المهمة، راح يقوض الخريطة الإدراكية لمستخدميه، ويقنعهم أن القضية الأبرز على قائمة الأولويات الوطنية تتجسد فى فنانة ادعت زواجها عرفياً، أو سيدة تمر بفترة من الخلاف وعدم الانسجام مع زوجها، وتراوح بين الاستمرار والانفصال.
وفى هذا الصدد، يمكن القول إن وسائل «التواصل الاجتماعى» لم تعد مجرد أداة اتصال وتواصل، أو عمل، أو ترفيه، أو إعلام وإخبار فقط، لكنها أضحت أيضاً سبباً فى خلل اجتماعى وأخلاقى عميق، يتغول ويتفاقم، ويأخذنا إلى مخاطر كبيرة.