يتم التعامل مع البعد الثقافى للقضية الفلسطينية بإهمال شديد، مع أنه يمثل جوهرها، ويحمل جزءاً كبيراً من الحل المنتظر لها، لاسيما إن أخذنا فى الاعتبار أن الثقافة لا تقتصر على الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، إنما هى أشمل وأعمق من ذلك، إذ تحضر فى الرؤى والتصورات والأفكار العامة والطقوس وطرائق العيش والخبرات والانتماءات والهويات والمخيلات والأحلام والذكريات، وتتجلى فى علاقة الإنسان بالمكان والزمان، وإدراكه لذاته ومجتمعه والعالم حوله، وفهمه أيضاً للطبيعة الإنسانية، سواء فى دخائلها الدفينة أو السياق العام الذى يحيط بها.
إننا لا نزال نهمل البعد الثقافى فى فهم طبيعة القضية الفلسطينية، أو التفكير فى مساراتها ومآلاتها، وهو خطأ شديد، لأن إسرائيل قامت أساساً على ذرائع ثقافية مرتبطة بتأويلات نفعية للنص التوراتى عن أرض الميعاد، وفى المقابل يتكئ قطاع من الفلسطينيين على تصورات مناهضة، أو تسهم فى تعبئة جهودهم خلال الكفاح المرير ضد الاحتلال.
يلمس الناس سريعاً أى تحول سياسى أو عسكرى، فى أوقات الحروب والنزاعات، فالأمور قد تنقلب بين عشية وضحاها، فيتغير نظام من ملكى إلى جمهورى، أو ينهزم جيش فى ميدان معركة، أو تميل الكفة لصالح طرف من المنخرطين فى حرب أهلية، لكن التحولات الاجتماعية والثقافية تتوالى على مهل، ولا يمكن رصدها بين يوم وآخر، فهى ثاوية فى الأعماق، وترتبط بالقيم والرؤى والتصورات، التى إن كان الشعور بتغيرها يكون بطيئاً، فإنها الشىء الذى يبقى مستقراً ومؤثراً لزمن مديد.
على مدار قرن من الزمن شهدت القضية الفلسطينية تحولات ثقافية، كانت بمنزلة المحطات الفارقة فيها، التى حددت فى النهاية إدراك الفلسطينيين لقضيتهم، وكذلك إدراك المجتمع العربى المحيط بهم، والذى تفاعل بدرجات متفاوتة مع أشواق أهل فلسطين إلى الحرية والعدالة والاستقلال، وسعيهم إلى استعادة أرضهم السليبة.
لكن هذا التغير الثقافى الذى استغرق وقتاً طويلاً حتى يظهر على السطح، لم ينه طوال سريانه، التصورات المستقرة والمستمرة فى أذهان العرب ووجدانهم، باتخاذ هذه القضية لدى قطاعات جماهيرية عربية معتبرة نقطة مركزية، ينجذبون إليها بوعيهم ومشاعرهم، لاسيما أن القضية لم تعرف فى أى مرحلة من المراحل بروداً وجموداً وقعوداً، يجعل بوسع المنشغلين بالسياسة، أو المرتبطين بالمصالح الوطنية الأصيلة، الانصراف عنها، وتنحيتها جانباً.
ورغم توالى الأجيال العربية بمرور الزمن، فإن قضية الشعب الفلسطينى ظلت معروضة بقوة، تفرض نفسها، تارة من باب «الحس المشترك» لأصحاب هوية واحدة أو متجانسة، على الأقل، وأخرى من زاوية التأثير المباشر لهذه القضية على المصالح الوطنية لكل دولة على حدة، إما لامتداد العدوان الإسرائيلى إلى هذه الدول، خاصة ما تُعرف بدول الطوق، أو إدراك أنظمة الحكم المتعاقبة أن جزءاً لا يُستهان به من الرأى العام فى كل دولة عربية، يحدد علاقته بالسلطة السياسية بناء على موقفها من الفلسطينيين، وإن اختلفوا أحياناً فى مقاربتهم لقضيتهم، بين مقاومة مسلحة ومدنية، أو دخول فى تفاوض أملاً فى أن تجلب لهم مبادرات واتفاقيات السلام المطروحة حقوقهم الضائعة، أو حتى من يطلبون حالة من السكون، تجعل مصالحهم مع الإسرائيليين أو المنافع منهم جارية.
هذا الاختلاف الفلسطينى فى حد ذاته موزع على خلفيات ثقافية، لا يمكن نكرانها، هى تحديداً أيديولوجية يسارية رافقت نضال الفلسطينيين عقوداً من الزمن، ثم أيديولوجية إسلامية راحت تتصاعد منذ ثمانينات القرن العشرين، لتواصل ما بدأته، بشكل آخر، على يد الشيخ أمين الحسينى فى ثلاثينات القرن نفسه.
ولا يوجد عيب فى تعدد الرؤى الثقافية الفلسطينية، التى تنعكس لا محالة على التصور والأداء السياسى بنسب متفاوتة، لكن العيب يكون فادحاً وغاية فى الضرر، حين لا تقف الأمور عند حد التعدد، أو الاختلاف الطبيعى، إنما تنزلق إلى انقسام أو شرخ كامل، يجعل الهويات الثقافية الفلسطينية فى حال صراع شديد، بدلاً من أن تستفيد من توزيع الأدوار، وتحصد النتائج الإيجابية التى تترتب على التنوع الثقافى والاجتماعى الخلاق.
(نكمل غداً)