تنجذب الخلفيات الثقافية العربية نحو هذه «القضية المركزية»، وفق إدراك متواصل لقطاع واسع من المثقفين والرأى العام، ويراها كل طرف من موقعه الثقافى أو خلفيته الفكرية، فاليسارى يرى فيها وجهاً للنضال ضد القوى الرأسمالية المتوحشة التى تسعى إلى الهيمنة والاستحواذ، وتتجبر دون تحسب ولا ورع ولا رادع، متكئاً فى رأيه هذا على الحبل السرى الغليظ بين الولايات المتحدة الأمريكية، قائدة العالم الرأسمالى، وبين إسرائيل، التى يُنظر إليها على أنها مجرد واحدة من أدوات الغرب فى الهيمنة على مقدرات منطقة الشرق الأوسط.
ولذا تطرح القضية الفلسطينية عند «القوميين الوطنيين» ضمن قضية التجزئة والدولة القطرية، ودور هذه الأخيرة فى إعاقة تحرير فلسطين.
كل هذا جعل من رؤية التيار اليسارى «الأصيل» والقومى الوطنى ترتكز على وحدة الأمة العربية، واعتبار تحرير فلسطين جزءاً من عملية أشمل وهى تحرير الوطن العربى، كما يقول خالد بايموت فى دراسته المهمة: «سؤال القضية الفلسطينية فى خطاب التيارات الفكرية العربية».
والإسلامى يربطها بالطبع بنصوص وتأويلات وتفسيرات وروايات دينية قديمة، واردة فى القرآن الكريم والحديث النبوى، عن موقف اليهود القدامى من الأنبياء موسى وعيسى ومحمد، عليهم السلام، وما ورد فى التوراة والتلمود من نصوص تبرر الحرب والسلب والاستيلاء على أرض الغير.
وفى قلب هذا تقع قضية «المسجد الأقصى» وحوله «القدس» التى هى مركز المركز فى قضية فلسطين برمتها، خاصة لدى الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية.
وحتى بعض الليبراليين العرب لا يمكنهم أن يفكوا ارتباط القضية الفلسطينية بقضايا الحرية والكفاح من أجل الاستقلال وتقرير المصير وحقوق الإنسان، لذا نجدهم يقاربونها من هذه الزوايا، وبعضهم مخلص فى مقاربته هذه إخلاصاً شديداً، ويدعو الآخرين إلى الإنصات إليه.
فالاتجاه الليبرالى العربى، وحتى فى ظل إيمانه بالمشترك الإنسانى والتحرر على الطريقة الغربية، يرى أن التحرر العربى ومنه الفلسطينى لا يتم إلا بتبنى هذه القيم الغربية التحررية العلمانية، على مستويات الثقافة والاقتصاد والاجتماع السياسى.
ولذا يضع السلطة الفلسطينية، رغم القيود المفروضة عليها، فى جملة الأنظمة العربية التى عليها القيام بإصلاح سياسى، وانتهاج الديمقراطية.
من أجل هذا نجد اتفاقاً بين أصحاب الخلفيات الثقافية العربية، التى تتعاطى السياسة من باب واسع أو ضيق، مع القضية الفلسطينية فى أوقاتها الحرجة، أى حين يكون هناك عدوان على الشعب الفلسطينى، لاسيما إن كان عدواناً مفرطاً، يصل إلى حد «جرائم الحرب» أو «الإبادة الجماعية» كما جرى فى قطاع غزة.
ولا يقف المنتمون إلى هذه الثقافات العربية المتنوعة خلف جدران عالية تفصلهم عن مماثليهم فى الساحة الفلسطينية، بل هناك الكثير من نقاط التماس والتفاعل، الذى يجرى بين الطرفين، أخذاً ورداً، وينشئ نوعاً من التغذية المرتدة أو الارتجاعية، التى تجعل القضية الفلسطينية محل نقاش ثقافى لا يفتر.
وتحاط هاتان الدائرتان الثقافيتان بدائرة أوسع تمتد إلى العالم كله، ففضلاً عن أتباع الثقافة السياسية الإسلامية فى العالم المسلم الممتد من غانا إلى فرغانة، يوجد بالطبع يساريون وليبراليون فى كل مكان، يقاربون القضية الفلسطينية من المنظور نفسه تقريباً، والذى يراها منه الذين هم على شاكلتهم فى العالم العربى، وإن زاد الفريق الآخر عليهم فى الدرجة بفعل الانتماء القومى، والقرب الجغرافى، والإحساس بالتأثير السلبى المباشر أحياناً، وكثير منه مترتب على «الأذى الإسرائيلى».
وقد قرَّبت «ثورة الاتصالات» الرهيبة التى شهدها العالم فى العقود الثلاثة الأخيرة، ويتضاعف حضورها وتأثيرها بمرور السنين، من هذه الدوائر، وخلقت بينها أشكالاً من التجاذبات والتفاعلات، وهو ما رأيناه طول الشهور التى استمر فيها العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، والذى تعدى حدود الظاهرة ليكون تحولاً ثقافياً عالمياً كبيراً فى مقاربة القضية الفلسطينية.