لا شىء يضاهى متعة وإثارة وجاذبية متابعة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. تحب أمريكا أو لا تحبها، تعتبرها مستحقة للقب «أقوى دولة فى العالم» أو ترى العكس، تحب ثقافتها وأسلوب حياتها وترى وعد الحلم الأمريكى من أعظم ما أنتجت البشرية أو تناهضها وترفضها وترى نفسك وثقافتك الأولى والأجدر بكل ما تحظى به أمريكا، كل هذا لا يؤثر فى متعة المشاهدة وروعة الإثارة.
البعض فى عالمنا يخلط بين التأييد والاستفادة، أو بين عقدة الخواجة والإقرار بأن دولة ما فيها ما يستحق المتابعة والتعلم. لأسباب ربما تتعلق بطريقة التربية والتنشئة والتعليم، بيننا من يخلط خلطاً غريباً بين الاطلاع على ثقافات وأساليب حياة الآخرين والتعلم من تجاربهم التى تستحق، وبين الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالأصل والتاريخ.. إلخ.
هذا البعض أيضاً غارق فى التعامل مع توازنات السياسة والمصالح من منطلق اعتبارات شخصية أو أحلام تاريخية. وهو البعض نفسه غالباً الذى لا يجتهد أو يعمل من أجل التطور وإحداث نقلة حقيقية فى حياته عبر التعليم النقدى لا التلقينى الحقيقى، ودعم أصول الدولة المدنية لا المدنية «كده وكده»، والتوقف تماماً عن انتظار حدوث النهضة بسقوط الآخرين، لا بنهضته هو شخصياً.
الانتخابات الأمريكية من أمتع الفعاليات التى يمكن متابعتها والتعلم منها.
كنت فى أمريكا وقت انتخابات عام 2016. وقتها كان ثمة جانب من «النخبة» الأمريكية على يقين بأن مرشحة الحزب الديمقراطى هيلارى كلينتون هى الفائزة.
الإعلام الأمريكى، ومعه الجانب الأكبر من إعلام الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا، كان يتعامل مع الانتخابات فى ذلك العام وكأنها تحصيل حاصل. ستفوز «كلينتون» بلا شك.
وحين تحدثت مع مترجم أمريكى من أصل مصرى تصادف أنه داعم من ألفه إلى يائه للإخوان فى تلك الرحلة عن احتمالات فوز «ترامب»، ضحك ضحكة سخرية، وقال: مستحيل. كلينتون ستفوز دون شك.
حتى اللقاءات والحوارات التى شاركت فيها فى جامعات ومراكز بحثية أمريكية فى ذلك العام، كان أغلب الأمريكيين فيها يعتبرون فوز كلينتون أمراً مفروغاً منه. وقبل الانتخابات بأيام، استضافتنى قناة «أون تى فى» فى مداخلة عبر الهاتف، وذكرت أن «كلينتون» تبدو فائزة فى أوساط الجامعات وبعض الصحفيين والباحثين، لكن زيارة ولايات ومدن بعيدة عن عين الإعلام المناهض لترامب، والحديث مع أمريكيين عاديين فى المطاعم والسوبرماركت يشير إلى غير ذلك، وأن «ترامب» يبدو الاختيار الأقرب لجانب كبير من المواطنين العاديين.
ونعود إلى انتخابات «ترامب - هاريس»، والتى انتهت بفوز ترامب فى أجواء تشبه انتخابات 2016 لدرجة تصل إلى التطابق.
نخب اعتقدت أن هاريس منتصرة لا محالة، إعلام «رصين» تجاهل الحياد والموضوعية والمهنية، واعتبر نفسه لسان حال هاريس إلى حد كبير، أو لسان حال ترامب إلى حد ما، وتصويت الشارع الأمريكى الذى انحاز إلى «ترامب».
هذا الانحياز ليس سببه موقف «ترامب» من الشرق الأوسط، أو الإسلام السياسى، أو خناقة الإخوان وغير الإخوان، ولا حتى حرب روسيا فى أوكرانيا أو صراع الصين وتايوان بالضرورة، ولكن أسبابه الأكبر تتراوح بين الضرائب والبطالة والهجرة والتضخم وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية فى الداخل الأمريكى.
فى تلك الأثناء، وفى بريطانيا حيث أقضى بضعة أسابيع، لم أقابل من يمكن وصفهم بالغارقين فى الدفاع أو الاهتمام بما يجرى فى منطقتنا الحبيبة الساخنة المتوترة.
حدثان لا ثالث لهما وجدتهما بالصدفة البحتة: وقفة من نحو ستة أشخاص، ثلاثة منهم عرب والثلاثة الآخرون من البريطانيين اليساريين الذين كانوا يقفون عند مدخل محطة ويمبلدون فى جنوب غرب لندن ذات مساء، يلوحون بعلم فلسطين، ويحمل أحدهم مكبر صوت يطالب فيه بـ«إنهاء الإبادة فى غزة»، وسط تجاهل شبه تام من المارة، بمن فيهم أصحاب الأصول العربية والمسلمون.
إن تصوُّر أن العالم «يقطع نفسه» بكاءً أو عويلاً أو دفاعاً أو هجوماً على قضايا تقع خارج حدوده طيلة الوقت وهم وخيال. وتصوُّر أن العالم يضع الآخرين من المظلومين والمقهورين أولوية تسبق أولوياته الشخصية ربما يمد البعض براحة نفسية، لكنه عار من الصحة.
هذا لا يعنى أن التضامن والتعاطف غائبان، لكن مبدأ «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع» مبدأ بشرى فطرى طبيعى.
فى بريطانيا، الهم شبه الأوحد حالياً هو كلفة المعيشة. أحاديث الناس فى الشارع تدور حول مخاوف الشتاء القادم، وهل سيكون فى إمكان الغالبية، لا سيما كبار السن والمرضى والأطفال، الحصول على التدفئة اللازمة فى البيوت فى ظل الأسعار الجنونية، ومتوسط الرواتب الذى لا يسمح للكثيرين من الشباب بإنجاب أطفال، ومحدودية المكونات الغذائية التى يمكن الحصول عليها فى ضوء أسعار المواد الغذائية المرتفعة وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية.
وفى المقام التالى من الأولويات، تأتى مسألة الهجرة والمهاجرين، ولكن الحديث عنها علناً يكتنفه الحرص والحرج لأسباب معروفة، لكن المزاج العام يتجه إلى رفض المزيد من المهاجرين، وحبذا لو تم التخلص من جزء من الموجود.