كأن الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب لا يرى ولا يعرف، وكأنه نسى أو يريد أن يتناسى أن بلاده قد حولت الشرق الأوسط إلى «جحيم» منذ سنوات وقضى الأمر، وأن تهديده الرهيب الذى تصدر وسائل الإعلام، ما هو إلا مزحة رخيصة لا تليق برئيس دولة عظمى، المفترض فيه أن يدرك حقائق الأمور بدقة قبل أن يجعجع ويفرط فى العنترية، كى يغازل (حبايبه) فى تل أبيب، معلناً ضرورة الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين فى غزة قبل 20 يناير القادم، وإلا سيحول المنطقة إلى «جحيم».
أى جحيم يا عم ترامب، هل هناك جحيم أكثر مما جرى فى غزة ولبنان وسوريا والسودان واليمن والصومال وليبيا؟، ألم يحك لك أى أفراد شعبك المغوار ما فعلوه بالعراق؟، وبالطبع لم تنشغل بما تفعله أجهزة مخابراتكم بدول المنطقة من ألاعيب منذ عقود، لكن ألم تعلم ما فعله صديقك (الأنتيم) نتنياهو فى العام الأخير بالمساكين من أهل فلسطين، وبالمدنيين فى لبنان؟، ألم يبلغك بمذكرة اعتقاله كمجرم حرب، لاستخدامه التجويع كسلاح حرب والقتل والاضطهاد والإبادة الجماعية والفصل العنصرى بحق أهل القطاع؟
فى مشهد بديع من رائعة المؤلف الراحل أسامة غازى «أوبرا عايدة»، وقف الفنان القدير يحيى الفخرانى يصول ويجول فى المحكمة، مجسداً دور المحامى الفريد (سيد أوبرا)، خلال مرافعته عن موكلته (عايدة) بطلة المسلسل، وفى لحظة يفاجئه ممثل النيابة الذى جسد دوره الفنان الجميل محمود البزاوى معترضاً على ما يقوله، فيرد عليه (أوبرا)، قائلاً: «اتلهى»، فيصرخ «البزاوى» مطالباً إثبات الإهانة، فيراوغه المحامى المخضرم متلاعباً باللفظ وينقله من العامية إلى الفصحى، فيصبح «اتله»، أى اقرأه.
وليأذن لى الدكتور الفخرانى بأن أقتبسها، وأبعث بها بالعامية المصرية إلى رجل الأعمال دونالد ترامب فى برقية عاجلة، «فخامة الرئيس الأمريكى.. اتلهى»، اتلهى عننا، واتلهى عن الشرق الأوسط، اشغل نفسك بـ(ماجا) واجعل أمريكا عظيمة، كما تاجرت على جماهيرك خلال فترة الدعاية الانتخابية، أو ساعد صديقاً آخر فى موسكو، وحل له مشكلة الحرب فى أوكرانيا، أو استمتع بوقتك فى الفضاء الافتراضى مع إيلون ماسك على منصة (X)، أو شاركه فى رحلة إلى المريخ ولا تنسَ وجبات (ماك)، ليكتمل بها اللهو.
ومن كتاب «المقالات اليابانية» للأستاذ محمد حسنين هيكل، أتوقف عند مقاله: «الشرق الأوسط لعبة كل رئيس أمريكى»، الذى قد يفسر لنا لغز هذا التصريح (التهديد) الذى أطلقه «ترامب»، ويقول الأستاذ: «إلى عهد قريب كانت أهمية الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة تتمثل فى عنصرين مهمين هما الموقع الاستراتيجى وموارد البترول، أما فى الأوقات الحالية فاستطاع الشرق الأوسط أن يقدم نفسه للولايات المتحدة بميزتين جديدتين هما: واقع أن الشرق الأوسط هو المنطقة التى يستطيع فيها كل رئيس أمريكى أن يجد بسهولة نقاطاً يضيفها إلى أرصدته فى استطلاعات الرأى العام، بأن يثبت فيها رجولته وقدراته على الفعل، كما تجد فيها أى إدارة أمريكية ميداناً مفتوحاً لتجارب ممارسة القوة لكى تثبت لنفسها وللآخرين أنها الأقوى».
وقد يكون الأستاذ محقاً فى مسألة «إثبات الرجولة»، نفتح بها قوساً لفهم سلوك «ترامب»، لكن نابليون بونابرت يغلق القوس بعبارته الخالدة «Cherchez la femme»، أو «فتش عن المرأة». فقد ربط البعض تهديد «ترامب» (العنترى) بلقائه مع سارة نتنياهو، حيث تناولا العشاء معاً فى فلوريدا، وقد وصفت «سارة» عبر حسابها على «Instagram»، اللقاء بأنه كان «دافئاً»، و«ودوداً» وأنها هنأت الرئيس على فوزه فى الانتخابات، موضحة أن اللقاء تطرق إلى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية الراسخة، وأنها نقلت له حجم المعاناة التى تحملتها بلادها منذ السابع من أكتوبر، مؤكدة اتفاقها مع الرئيس على «الحاجة الملحة للعمل على إطلاق سراح الرهائن (المحتجزين فى غزة)، وإعادتهم بسرعة».
وكان الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب قد عين فرداً من عائلته (بالواسطة يعنى) فى منصب كبير مستشاريه للشئون العربية والشرق أوسطية، وهو رجل الأعمال ذو الأصول اللبنانية مسعد بولس، والد مايكل زوج ابنة ترامب «تيفانى». ووصفه «ترامب» بأنه «صانع صفقات»، وقدمه على منصّته «تروث سوشيال»، قائلاً: إنه «محامٍ لامع ورجل أعمال رائد يحظى باحترام كبير، ويتمتع بخبرة واسعة النطاق على الساحة الدولية». وأضاف أنه «كان له دور فاعل فى بناء تحالفات جديدة هائلة مع الجالية العربية الأمريكية».
لتكتمل ببولس رؤية «ترامب» لأعضاء فريقه الرئاسى فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وكلها ترشيحات تؤكد مضيه فى دعم إسرائيل مزايداً على سابقه «بايدن» الذى قدم الكثير، ومهَّد بدعمه المطلق وضعفه البين الطريق لإشعال حرائق «الشرق الأوسط»، الذى خدعنا «ترامب» بأنه جاء ليكون «رجل المطافئ» فيه، لكنها «سارة» على ما يبدو هى مَن أقنعته بأنه يبدو أكثر رجولة فى دور «أبوجحيم».