في كتابه «أحوال العباد» ساح الأديب مكاوي سعيد، الذى تمر هذه الأيام الذكرى السابعة لرحيله، فى الاتجاهات الأربعة، ذاهباً إلى الماضي، وعائداً إلى الحاضر، ومنطلقاً إلى المستقبل، ومتحدثاً عن تجاربه الذاتية، ثم مقتبساً من تجارب الآخرين، ومتنقلاً بين كتابة تقريرية فى أقل المواضع وجمالية فى أغلبها، حيث يحتفى بالحكاية واللغة والصورة، ويجعل من هذا التشكيل حاملاً للمعنى الذى يريد أن يعرضه، أو القيمة التى يسعى إلى ترسيخها.
ومن خلال حكايات كان بطلها أو كان غيره تأتى هذه الصور القلمية، تشريحاً للمجتمع المصرى فى لحظته الراهنة، وفضحاً لبعض الصور النمطية التى تستقر فى أذهان الكثيرين منا عن الغرب، فنعرف طرفاً من رقابة السلطة على «البريد» وعلى حياتهم الخاصة حتى كادت أن تعد عليهم أنفاسهم، ونقف على الفاقة والعوز التى من الممكن أن تجعل ضعاف النفوس ينزلقون إلى الجريمة، والتجارب الأليمة مع الامتحانات والانتخابات، وازدواج الشخصية الذى يصيب البعض فيجعل الغاية تبرر الوسيلة من خلال حكاية الرجل الذى يغش فى «القرعة» حتى يصيبه الدور فى الحج، والصاحب الذى يستعين بأصدقائه فى شهادة زور لطرد ساكن من شقته، وأولئك الذين حولوا الدين إلى قشور وتركوا اللباب، والدبلوماسى الذى يذهب إلى الغرب بسلوكيات الشرق، والمعاناة التى يعيشها بعض أهل الفن، ومغامرات طلاب الجامعة والمراهقين فى العلم والحب، وطرفاً من حياة التجار والعمال والموظفين والحرفيين وأطفال الشوارع والباعة الجائلين والمتسكعين ومستحدثى النعمة الطفيليين، وجانباً من الاستهانة بالعلم والثقافة فى حياتنا، وطرفاً من التفكير الذى لا ينتهى فى «القضاء والقدر»، وبعض لمحات من الثورة وآثارها على الأذهان والوجدان والأجيال والولدان، ومآسى السلطة والشرطة والنخبة، ومعارك الوطن فى البناء والتنمية، وحكايات عن الحب والحرب، والزواج والطلاق، وسياحة فى الأمكنة والأزمة، أو فى الرحلات والتاريخ.
فى كل هذا يمزج مكاوى سعيد السياسة بالأدب، والحكاية بالمقال، ليصنع كتابة مختلفة نسبياً عن أغلب السائد والمتاح، لم يرد لها أن تضيع، أو أن تحرفه كلية عن مساره كواحد من البارعين فى فن السرد، بل ربما كان يقصد وهو يكتبها أن يعطيها قدراً من الديمومة، من خلال الابتعاد بها عن وصف وتحليل العارض والعابر والجارى من الأحداث والوقائع، ليحفظها فى نهاية المطاف بين دفتى كتاب، وأظن أنه نجح، إلى حد بعيد، فى ما قصده.
وأعتقد أن هذا الكتاب يعطينا فكرة جيدة، ليس عن كاتبه وانشغالاته، بل أيضاً عن كثير من القضايا المطروحة فى واقعنا المعيش، والتى تتسم بالتعقيد والتركيب، حيث يتداخل فى تشكيلها السياسى بالاقتصادى والاجتماعى والثقافى بمعناه الأعمق والأشمل، الذى يتعدى ما هو موجود فى الكتب وحوارات النخبة المثقفة إلى القيم والاتجاهات التى يحملها عوام الناس، والتى تكونت عبر فترة طويلة من الزمن، وصارت جزءاً من شخصية المجتمع المصرى المعاصر.
إن هذا المجتمع العامر بالظواهر والمشاهد والمواقف والحكايات، يعطى فى عراقته وحيويته، لأى صاحب قلم، فرصاً لا تنتهى للتأمل والتقاط العبر واستلهام الصور والمجازات، والتأثر بالمواقف والأحداث، كى يكتب ويكتب، بغض النظر عن لون الكتابة: رواية أو قصة أو قصيدة أو حتى مقال سردى، مثل ذلك الذى جاد به مكاوى سعيد فى كتابه «أحوال العباد».