هل يعقل أن تتحول الأنظار وتتغير العناوين وتتبدل قوائم المحللين والمنظرين والمفتيين فى خلال أيام معدودة من غزة إلى لبنان، هكذا، بعد نحو عام كامل من القتل والتخريب والإبادة والإجبار على النزوح لمن بقى على قيد الحياة والإمعان فى الذل والإفراط فى التعنت، وضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية والإدانات الأممية وأحكام المحاكم الجنائية الدولية المطالبة بالتوقف الفورى، بل وصدور أحكام الإدانة؟
هل يعقل أن تتحول أنظار مليارات البشر من هذه المشاهد التى ستبقى محفورة فى أذهان وقلوب كل من تابع نشرة أخبار أو شاهد مقطعاً مصوراً أو استمع لما جرى لطفل أو رجل أو امرأة فى قطاع غزة على مدار عام إلى لبنان وحزب الله، الدولة فى داخل دولة، وكأن غزة لم تكن؟
صحيح أن أخبارها ظلت تجد لنفسها موقع قدم فى ذيل النشرة أو منتصفها، هذا فى حال تعدى عدد القتلى المائة أو المائتين، لكن إدارة شئون أذهان العالم تتفوق على الجميع. هذا الذى يحرك «ماريونيت» الأحداث، ومن ثم يتحكم فى متابعات سكان الأرض، ووجهة تعاطفهم، ومآل اهتماماتهم مذهل حقاً.
وبينما الجميع معلقة عيونهم وعقولهم وقلوبهم بما يجرى فى لبنان، ونزوح أهل الجنوب، ومضاعفة أوجاع اللبنانيين التى كانت متفاقمة أصلاً قبل بدء الفصل الجديد من فصول تشكيل الشرق الأوسط الجديد، تماماً كما تمضى قوى العالم العظمى فى تنفيذه والذى سُطِرت أولى صفحاته فى أكتوبر عام 2023، وبعد بضعة أيام من القصف الشديد والاستهداف المحكم لشخصيات بعينها ونزوح الآلاف من الجنوب ليفترشوا كورنيش بيروت، إذ بالدفة تنقلب فى سويعات معدودة صوب سوريا، وكأن مخرج الفيلم الهوليوودى فقد فقرة أو أسقط مشهداً يمهد للمشاهدين الانتقال المباغت من ضرب لبنان إلى تفكيك سوريا.
ما يجرى فى حلب وحماة بين يوم وليلة من اجتياح جماعات وميليشيات مسلحة فى كفة، وتغطية ما يجرى فى وسائل إعلام فى الشرق والغرب باعتباره «تقدم للمعارضة المسلحة» فى كفة أخرى.
بعيداً عن مدى الرضا أو عدمه على النظام السورى، هل يعقل أن تكون هناك معارضة تتحرك على دبابات وتمتلك صواريخ ومسيرات ومدافع ورشاشات مضادة للطائرات وراجمات صواريخ؟ هل يعقل أن يكون أفراد المعارضة مدربين على القنص والاجتياح والتصويب على الطائرات واجتياح القرى والمدن؟
عموماً، على مدار العقد والنصف الماضيين، عرفنا عن طريق الأخبار المعلنة رغبة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة توجيه «المزيد» من التسليح والتدريب والتأهيل القتالى للمعارضة السورية «المعتدلة»!
كتبت «كلينتون» فى مذكراتها أنها أرادت تسليح «المتمردين» السوريين فى وقت مبكر من الحرب الأهلية فى البلاد، لكن باراك أوباما رفض ذلك. وأعلنت وسائل الإعلام فى عام 2015 أن الجيش الأمريكى بدأ فى تدريب عشرات المقاتلين المنتمين لـ«المعارضة» السورية من أجل إعدادهم لمواجهة «داعش»، وذلك إحياء لبرنامج تدريب آخر كان قد فشل فى تنفيذ أهدافه «المعلنة». وتم الإعلان عن أن برنامج تدريب «المعارضة السورية المعتدلة»!! قد أوقف من قبل بعد ما قام بعض المتدربين بتسليم أسلحتهم إلى فصائل جهادية فى سوريا!
ما سبق نقطة فى بحر من خلفية «المعارضة السورية المسلحة» التى تملأ أخبار اجتياحها لحلب ثم حماة نشرات الأخبار الآن. فى تلك الأثناء، اختفت أو على الأقل تقلصت أخبار إيران ومناطحاتها مع أمريكا وإسرائيل. وتقلصت أخبار الحوثيين ومشاركتهم فى المشهد عبر استهداف السفن فى البحر الأحمر. وتضاءل الحديث عن «حزب الله» ووضعه الحالى وتوقعاته المستقبلية. وانكمشت أخبار غزة، وما يجرى هناك من نزوح ونزوح مضاد، وسيناريوهات المستقبل القريب الذى يدق الأبواب.
فى تلك الأثناء أيضاً، ترد الأخبار أن كل قيادات حماس وذويهم قد غادروا قطر إلى وجهات مختلفة. يشار إلى أن قيادات حماس كانت قد أكدت غير مرة قبل نحو ثلاثة أسابيع أن التهديدات الأمريكية بإبعادهم من قطر غير جدية. تقارير تتحدث عن وجهات مختلفة أبرزها تركيا، وماليزيا. وبالمناسبة، ماليزيا وإسرائيل لا تربطهما علاقات دبلوماسية، لكن هناك علاقات تجارية «غير مباشرة».
ويذكر أيضاً أن خبير الطاقة وصناعة الصواريخ المهندس الفلسطينى وأحد أعضاء حماس البارزين محمد البطش اغتيل فى العاصمة الماليزية كوالالمبور فى عام 2018.
لولا أن ما يجرى يحصد حياة الآلاف من الأبرياء، ويشرد الملايين، ويفكك دولاً، ويعيد ترتيب أوضاعاً، ويتعامل مع المنطقة العربية وكأنها لوحة Puzzle ضخمة، تشارك دول العالم فى فكها وإعادة تركيبها بالشكل الذى يناسبها، لكانت عملية رصد ما يجرى أمراً يمكن وصفه بالإثارة.
حفظ الله مصر وأهلها وجيشها، وأدام على الغالبية من المصريين نعمة العقل والمنطق وحسابات المكسب والخسارة والقدرة على عدم الانجراف وراء سموم الأفاعى، مهما كانت أوجاع الاقتصاد وانتقادات السياسة والاختلاف حول الأولويات.