عندما تذهب إلى الريف المصرى عليك أن تنظر إلى نوعية الحياة التى اختلفت، ليس بالطبع للأفضل ولكن للأسوأ، فالاكتساح الأسمنتى للون الأخضر يدفعك إلى الاكتئاب، فلون الحياة يتراجع أمام قسوة الخرسانة وجفائها، الحياة تعرضت إلى تجريف منظم لعشرات السنين، وكأنه وطن بلا مسئولين أو وطن بلا مواطنين مسئولين، فالزراعة التى تمثل عصب الحياة أُهملت وتأخرت فى أولويات الجميع، ومنهم بالطبع وسائل الإعلام، فاختفت الدوريات المهتمة بشئون الزراعة والأبواب المتخصصة فى الصحف السيارة وكذلك الفضائيات لا تضع هذا المجال فى اهتمامها، وإذا اهتم بعضها فإنه يهتم لجلب إعلانات أو خلافه أو إفساح مجال لتمكين أو استحواذ أو سمّه «فساداً» إن شئت. ورغم التجاهل من الأغلبية ورغم الهوى من البعض فإن هناك شمعة مضيئة أوقدتها «الأهرام» بمطبوعتها المتميزة «الأهرام الزراعى» التى وجدتها منذ التطوير الذى طرأ عليها منذ عام «دورية رصينة» ملأت فراغاً فى عالم لا يهتم سوى بصفحات الموضة والماكياج وأخبار الفضائح وبرامج المقالب. «الأهرام الزراعى» فى حلتها الجديدة أعادت تاريخاً لإحدى أقدم المطبوعات المتخصصة فى مصر والوطن العربى، فالمضامين التى قدمتها تعكس رؤية مهنية خالصة بوصلتها الوطن، فمن يشتبك فى قضايا تجلب على صاحبها المتاعب فى قطاع تسيطر عليها إمبراطوريات وتتحكم فيه شبكات مصالح، ليس إلا مغامر يمشى على الأشواك فى عالم لغته المليارات، الزملاء فى المجلة بقيادة الزميل عصام بدوى دقوا أبواباً جديدة وفتحوا نوافذ على دنيا ينبغى لنا جميعاً أن نضعها فى الاعتبار ونوليها اهتماماً، مواطنين ومسئولين على حد سواء، لا يستطيع أى شعب أن يذهب إلى الغد دون أن يؤمّن غذاءه، هذا ليس اختياراً بل إجباراً، ومن ثم فالاهتمام ليس رفاهية بل جبر يلزمه الإدراك ولن ينفعه التأجيل!!
«القطن الذى نزرعه ولا نصنعه والقطن الذى نصنعه ولا نزرعه».. عنوان لقضية من سلسلة طويلة من القضايا والأزمات فى القطاع أدهشتنا بها المجلة المتميزة، فالميزة التى قرر البعض منذ زمن أن نفقدها بقصد أو بدون قصد من الواجب أن نعيد النظر إليها ونلح عليها كما فعل الزملاء، بل من الضرورات -إذا كانت النيات صادقة- أن تكون مشروعاً وطنياً تتبناه جميع وسائل الإعلام. لم يخلُ عدد من المجلة من رصد هموم الفلاحين والعاملين فى قطاع الزراعة بل انتشر صحفيوها على كامل الأرض المصرية فوجدنا موضوعات من الصعيد والوجه البحرى، فى توجه لكسر المركزية والوصول إلى أهلنا الذين اعتبرتهم وسائل الإعلام مواطنين من الدرجة الثانية بعد مواطنى القاهرة الكبرى!!
لقد قدمت مؤسسة الأهرام تجربة جيدة ينبغى دعمها وتطويرها بما يحقق الصالح العام الذى يلزمه مطبوعات متخصصة تكشف القصور والإهمال وتحمى الوطن من نفوس مريضة تعمل فقط لصالح زيادة أرصدة حساباتها حتى لو على حساب أمن البلاد الذى يبدأ بالغذاء!
هذا ليس مدحاً لكنه حق وجب علينا أن نسجله ما دامت هناك أشياء جيدة تصنع على صفحة الوطن، لا نملك تجاهها سوى التصفيق والمطالبة بالمزيد، مع دعاء بألا تقترب من التجربة أيادى الهوى والغرض والانحيازات!!