كان دعاء عادياً، بصيغة غير عادية، ترفع الأمهات أكف الدعاء للأبناء -والإناث تحديداً- لتحقيق عدد من الأمنيات، زيجة وذرية وراحة بال.. هكذا اعتدنا، إلا أمى رحمة الله عليها، داومت على مدار سنوات عمرى معها على دعاء واحد، لا يتغير، لا يتطور، لا يزيد ولا ينقص، صاغته بلغة تفتح لها السماوات، لغة الأمهات، قد لا يخرج بتركيب لغوى معروف، إذ إن نبرتها وصوتها وطريقة إلقائها له دوماً كانت مختلفة، لذا حفظته عنها وأخرجته على لسانى وقلبى بالطريقة نفسها، وصار أمانى حين ألوذ به: «يكفيكى شر اللى ما تطيقيش شره» مع تغيير الضمير لنفسى.
لماذا نقابل الشرور؟.. هل لأن المولى عز وجل وعد البشر فى كتابه «خلقنا الإنسان فى كبد»، أم لأنها طبيعة الحياة، فإذا كان حتماً علينا مقابلتها، ما الذى أطيق شره وما الذى لا أطيقه؟.. عملية حسابية ذهنية، من تساؤلات متسارعة يبادلها عقلى ولسانى، وكلما وصلت إلى نتيجة، تفرعت النتيجة إلى أسئلة، وهكذا فى دائرة مفرغة، أولها هو آخرها فى كل مرة.
لكل منا عالم من المخاوف والأخطار، فى كل مرة أشعر فيها بالخطر، أجد حولى ما يطمئنى، أستمع إلى أصوات عاقلة أو مبشرة تحيل الأمر إلى أن «الله معنا لن يتركنا»، ورغم الطمأنينة الداخلية التى يُسمع لها صوت والتى تنطق بالحمد والشكر دوماً، فإن ثمة هدوءاً ينسحب إلى نفسى لمجرد أننى وجدت من يربت على كتفى بجمل «الصبر».
لحظات قليلة فى حياتى عرفت فيها الخوف دون أن أجد ما يطمئنى أو ينزعنى من هذه الحالة، أتذكر منها يوم مات أبى، يوم فقدت أمى، يوم وقعت مصر فى يد الخونة بشرعية غزوة الصناديق، ويوم أن هربت عناصر من الجيش السورى تاركة وراءها الدولة عارية، والفصائل تقفز على الدبابات والطائرات تلتقط إلى جوارها الصور، كما السبايا فى حروب الجاهلية.
لحظات أخرى كثيرة مررت فيها بالخوف وشعرت فيها بالخطر، لكنها لم تحمل الدلالات نفسها التى حملتها هذه اللحظات، أقسى ما يمكن أن يخدع به المرء نفسه أن يتملص من محيطه وأن ينغلق على نفسه، أن يرى هذا الحديث المتداول حوله دون أن يُصمته ولو بكلمة، أن يعتبر ما يدور حوله ليس بـ«حوله»، وألا يغادر حديثه سقف «حلقه»، وأن يكون طموحه نوماً آمناً وصحواً دون غفلة، وأن يمر على انهيار لبنان ومأساة فلسطين ودمار العراق وليبيا واليمن والسودان، وسقوط سوريا المروع، مرور من أمِن «الأمان» فأساء الأدب مع «العبرة والعظة».. فكل مضمون متروك.
هنا نشعر بالانفصال، مصر الدولة تقف وتراقب وتتابع وتستعد وتحسب حساباتها وتعزز قواها وتنتبه مبكراً لمخطط قد لا نكون فى قلبه لكنه سيطولنا بسوءاته -باعتبارنا قلب المنطقة التى يرغبها الجميع.
تحتفظ مصر لنفسها بحقوق الملكية الفكرية الحصرية لعبارة «الجيش خط أحمر» ونزيد عليها عبارة أخرى «والأمن والدولة أيضاً خط أحمر»، وما عداهما من مخاطر أو تهديدات لا يعول عليه.. أما مصر الشعب فمنصرفة إلى شئونها، من شائعات إلى نفيها، من باقات الإنترنت إلى الحزب الوليد، من إشكالية العمل 12 ساعة أو أقل إلى خناقة «اسمع يا خواجة».. انفصال يقول إننا لم نتعلم من درس 2011، ولا درس 2013، نردد ما نسمعه فنوسع من دوائر انتشاره، نغذى ما يعطلنا عن سعينا إلى ما يليق بنا ونتقوقع حول جدل لا يزيد عن كونه «بص العصفورة»، ورغم أننا نعلمه ونتقنه، لكننا ننخدع و«نبص للعصفورة».
فلنبكِ على سوريا نهاراً وليلاً، نبكيها فى ماضيها ونبكيها فى حاضرها، ويبدو أننا سنبكيها فى مستقبلها الذى ستؤول إليه بعد سيطرة الفصائل المسلحة.. كله بكاء، نزين حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعى بما يحمل مواقفنا، هذا مع سوريا وهذا مع بشار وهؤلاء مع الفصائل.
وحين يتجرأ البعض على وضع التحليل والتحذير فى سياق واحد، ربما يفيق البعض من الوهم وينتبهون للكارثة، تنهال عليه سهام الانتقادات والمزايدة على موقف مصر والمصريين مما يحدث، فـ«ينجعص» آخر وهو يرى من مرقده مستقبل سوريا بعد بشار، ومستقبل بشار دون سوريا، معتبراً «الفصائل المسلحة» هى المنقذ للوضع الحالى، دون أن يسمها أو يشرح خلفيتها، لكنها لن تمكث طويلاً فى الوضع المستتر، ستعلن عن نفسها قريباً، وتعود لهويتها وحقيقتها، بينما نحن غارقون فى توزيع الاتهامات على جيش هذه الدولة ومعارضة تلك وشعب هذا الإقليم، دون أن يكون لنا تفسير واحد منطقى أو عقلانى حتى للموجة الأولى من ربيع هذا الغضب الساطع الذى انطلق فى 2011، الموجة التى كادت أن تأخذنا معها لولا «يد الله» التى طالتنا بالستر.
ولولا أننا استيقظنا من الغفوة.. لتنطلق الموجة الثانية بوضوح أكبر وتجلٍّ أعظم، ورغم هذا تأتى النتائج مطابقة لردود فعل المرة الأولى، وكما سقطت ليبيا من «أول قلم» وخلفها البقية، تسقط سوريا قبل أن تتلقى حتى القلم.. ومن خلفها بقية أخرى ممن يرون أن فى سقوط دولهم فخراً وعزة.
إننا فى هذه اللحظة فى أمسِّ الحاجة لدعاء أمى، لأنفسنا وبلدنا وشعوبنا العربية، يكفينا شر اللى ما نطيقش شره.. نسأل الله النجاة لشعبنا من شعبنا.