هل للدول أقدار تماثل في طبيعتها وتأثيراتها أقدار البشر؟ ربما كان ذلك كذلك.
فكل بقعة من بقاع الأرض تحمل بشرا يسيرون فوقها بأقدارهم، وأقدار البشر هي التي تصنع قدر الأرض.. هل تذكر بيت الشعر الذي لم يكن الأستاذ محمد حسنين هيكل يمل من تكراره: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها.. ولكن أخلاق الرجال تضيق؟.
في ضوء هذه الفرضية يمكننا تأمل ما يرويه «المقريزي» في خططه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سأل «كعب الأحبار» عن طبائع البلدان وأخلاق سكانها، فقال: إن الله تعالى لما خلق الأشياء، جعل كل شيء لشيء، فقال العقل: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وأنا معك.
فلنتأمل لبعض الوقت عبارة: فقال العقل أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك، ونسأل هل الفتنة قدر الشام؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال يتوجب علينا طرح سؤال آخر: كيف يمكن أن يكون العقل مصدرا للفتنة؟.
المفروض أنّ العقل جوهر الاتزان والتوازن في الحياة الدنيا، فصاحب العقل أقوم أخلاقا وأرشد سلوكا ممن تحكمه غريزته، وليس أدل على ذلك من أنّ الله تعالى طلب من الإنسان أن يحتكم إلى عقله في واحدة من أخطر المسائل المتصلة بالعلاقة بين الأرض والسماء، وهي مسألة الإيمان بالله.. يقول تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ».
لا أظن أنّ الهدف من العبارة التي نقلها «المقريزي» وتبنى فيها نظرية «كعب الأحبار» التي تربط بين «العقل والفتنة» تسفيه العقل، أو اعتبار تلك النعمة التي أنعم الله بها على عباده سر الفتن أو سببها، بل تمثل استخلاصا -أظن أنه خاطئ- أو قراءة غير دقيقة للأحداث التي شهدتها هذه البقعة من الأرض، وشملت صراعات دامية بين فصائل وجماعات مختلفة من المسلمين، وذلك منذ العقود الأولى التي تلت وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، شأنها شأن العديد من المدن المسلمة الأخرى، فالصراعات لم تضرب الشام بمفردها، خلال أحداث الفتنة الكبرى، بل ضربت غيرها من الولايات المسلمة، مثل مصر والبصرة والكوفة والمدينة ومكة وغيرها.
ولم يكن المسلمون المتصارعون على الخلافة بعد وفاة النبي بدعا في ذلك، بل كانوا مثل غيرهم من البشر داخل المجتمعات التي عاصرت هذه الفترة الزمنية.
وأصل الربط بين العقل والفتنة في مقولة «كعب الأحبار» يتعلق بأنّ كل ذي عقل هو صاحب وجهة نظر قد تتعارض مع صاحب عقل آخر، وتلك طبائع الأشياء.. هل تذكر المقولة الشعبية اللطيفة التي تقول إن الله تعالى وزع الأرزاق بين عباده فلم يعجب أحداً رزقُه، وأنّه وزع العقول فأعجب كل واحد بعقله!
العقل لا يؤدي إلى الفتنة، بل إلى التنوع في وجهات النظر، وهناك مجتمعات لا تتحمل أعصابها هذا التنوع وتتمسك بأن يكون الناس نسخا من بعضهم البعض، ولا ترضى بمنطق الاختلاف الذى جعله الله تعالى سنة من سنن الحياة على الأرض.. يقول تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ».. الرفض المقيت للاختلاف هو الذي يؤدي إلى التعصب، والتعصب هو الذي يؤدي إلى الفتن، وليس العقل.