كانت الشام مأوى أول معارض في تاريخ الخلافة الإسلامية، وهو الصحابي سعد بن عبادة الأنصاري، وقد عارض سعد كما تعلم أيلولة الخلافة إلى أبي بكر أو لأحد من القرشيين المهاجرين، ونادى بأن الأنصار أحق بها، وأنه شخصيا أولى بالخلافة من الشيخين أبي بكر وعمر.
لم تكن تلك أكثر من وجهة نظر تبناها سعد بن عبادة وبعض الأنصار، لكن غالبية المسلمين تبنّت في ذلك الوقت وجهة النظر التي تذهب بأنّ قريشا أولى بالأمر، وأنّ أبا بكر رفيق رحلة النبي صلى الله عليه وسلم، هو الأجدر بالأمر من بعده، وتم بالفعل حسم الخلافة له.
وقد كان أبوبكر، رضى الله عنه، أولى الناس بالخلافة، لكن ذلك لا ينفي بحال أن بعض المسلمين كانوا يعارضونه، وهؤلاء هم من أبطأوا عن بيعته، كما يقول «ابن سعد»، صاحب الطبقات الكبرى: «أخبرنا عفان بن مسلم قال أخبرنا شعبة عن الجريري، قال: لما أبطأ الناس عن أبي بكر قال: من أحق بهذا الأمر مني؟ ألست أول من صلى؟ ألست؟ ألست؟ قال: فذكر خصالا فعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم».
هذا الكلام يُدلل على أنّ أبا بكر نفسه كان يتقبّل وجهات النظر الأخرى الرافضة له، ويحاول أن يعالجها بالعقل، ويعرض الأسباب والمبررات التي يرتكن إليها في تقديم نفسه كخليفة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم.
المعارضة في ذلك الوقت كانت مقبولة إذن، وقد مارسها سعد بن عبادة بشراسة ضد أبي بكر الصديق، يحكي «صاحب الطبقات الكبرى» أنّ أبا بكر بعث إلى سعد بن عبادة: أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: لا والله لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي، فلما جاء الخبر إلى أبي بكر، قال بشير بن سعد: يا خليفة رسول الله إنه قد أبى ولجّ وليس بمبايعكم أو يقتل، ولن يُقتل حتى يُقتل معه ولده وعشيرته، ولن يُقتلوا حتى تُقتل الخزرج، ولن تُقتل الخزرج حتى تُقتل الأوس، فقبل أبوبكر نصيحة بشير فترك سعدا.
فلما ولى عمر لقيه ذات يوم في طريق المدينة، فقال: إيه يا سعد، فقال سعد: إيه يا عمر، فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟ فقال سعد: نعم أنا ذاك وقد أفضى إليك هذا الأمر، وكان والله صاحبك أحب إلينا منك، وقد والله أصبحت كارها لجوارك، فقال عمر: إن من كره جوار جاره تحول عنه، فقال سعد: وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك، قال: فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج مهاجرا إلى الشام.
منذ اللحظة التي هاجر فيها سعد بن عبادة إلى الشام باتت هذه البقعة من الأرض مأوى المعارضين، والعاصمة التي يناوئ منها كل معارض سلطة الخلافة داخل المدينة أو في مكة المكرمة، وربما كان ذلك هو السر في ذلك الوصف الذي خلعه كعب الأحبار على الشام، حين طلب منه عمر بن الخطاب وصف أخلاق البلدان، فذكر له أنّ العقل قال: أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك.. وكأنّ العقل أصل المعارضة!