الجانب الأكبر من المتابعة للشأن السورى تحول إلى: هل تقود هيئة منبثقة -وليست منشقة- عن تنظيم القاعدة إلى إقامة دولة العدل والسلام والأمان والديمقراطية والتسامح والقبول والقانون؟ أم أن ما حدث هو البداية لدويلات مكان الدولة السورية، كل منها منقسم بحسب الجماعة أو الميليشيا، وكذلك الانتماء للدولة التى أنفقت عليها ودربت مقاتليها وخرجت من خزانتها مرتباتهم ومكافآتهم، بالإضافة بالطبع إلى التقسيمة الطائفية والتى تتكون من خمس طوائف رئيسية، وبينها الكثير من احتقانات الماضى وخلافات الحاضر. ويضاف إلى ذلك، خلافات فيما بين البعض من الطوائف، وهو ما يعنى جماعات وميليشيات فى داخل الطائفة الواحدة.
المؤكد أن نسبة غير قليلة من أبناء سوريا -بغضِّ النظر عن طوائفهم- تأمل وتتمنى وتحلم بوطن آمن. لكن المؤكد أيضاً أن الطائفية حين تدخل من الباب، والتطرف والتشدد حين يتسللان إلى البيت بفعل تغذية مقصودة لنعرات دينية أو عرقية يهرب الوئام والسلام من أقرب «خرم إبرة».
فى ورقة عنوانها «الطائفية فى سوريا: من ألفها إلى يائها» للكاتب والشاعر السورى محمد ديبو، وصف الطائفية فى سوريا قائلاً: «انفجار المسألة الطائفية فى بلد تعلم على مدى أكثر من نصف قرن أن يوارى طائفيته بفعل عنف السلطة التى حكمت على معارضيها بالسجن عقوداً بتهمة «بث النعرات الطائفية» جاء مفاجئاً، فأربك الجميع، وكأن المسألة الطائفية تنتقل من التعتيم المتعمد إلى الضوء الكاشف».
ما الذى سيحدث فى سوريا؟ يقول البعض: لا أحد يعلم، لكن نتمنى الأفضل. بالطبع أى عاقل يتمنى لسوريا والسوريين الأفضل، إلا لو كان عاقلاً شريراً أو ذا أطماع. أما «لا أحد يعلم»، الغالبية لا تعلم فعلاً، لكن مهندسى ما جرى على علم بيّن ومعرفة عميقة بكل خطوة، إلا فى حال حدث ما ليس فى الحسبان وخارج حساباتهم وتخطيطاتهم. كل تفصيلة من تفاصيل إسقاط النظام لافتة ومدهشة. خذ عندك مثلاً عزيزى القارئ تحرك إسرائيل فى الجولان والشريط العازل وضرب أهداف بعينها بعد سويعات من إسقاط النظام ودخول مقاتلى «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) دمشق، وكأنها كانت تستمع إلى ما يجرى من تكتيكات وترتيبات من قبَل جماعة أبومحمد الجولانى!
اللافت أن الجولانى لم يعلق على تحرك إسرائيل وجاهزيتها فى هضبة الجولان، رغم تطابق الاسمين. قال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إنه أمر الجيش بالسيطرة على المنطقة العازلة التى تفصل هضبة الجولان التى يُفترض أنها «محتلة»، وذلك تأميناً لإسرائيل. وقالت إسرائيل قبل أيام إنها دمرت 80 فى المائة من القدرات العسكرية للجيش السورى. المرصد السورى لحقوق الإنسان قال أيضاً إن أمر تسريح الجيش السورى جاء من روسيا، وإن تدمير قدرات الجيش السورى يتم بموجب اتفاق دولى.
وللتذكرة، فى عصر الثورة الرقمية والسوشيال ميديا التى أصبحت «مصدراً» رئيسياً، وأحياناً المصدر الرئيسى للأخبار لكثيرين، بمن فيهم للأسف الشديد بعض وسائل الإعلام الرصينة، فإن الكثير مما يُثار على منصات الإنترنت لا أساس له من الصحة.
على سبيل المثال لا الحصر، زعيم هيئة تحرير الشام أبومحمد الجولانى (سابقاً) أحمد الشرع حالياً لم يقل إن هيئته نسقت مع إسرائيل أو اتفقت معها أو ما شابه، لكنه فى الوقت نفسه لم يعلق أو يتطرق إلى تصرفات إسرائيل فى الداخل السورى!
على أية حال، نعود إلى السؤالين اللذين يشغلان الملايين: هل تقود هيئة تحرير الشام المنبثقة عن تنظيم القاعدة سوريا نحو الحرية والديمقراطية؟ أم أنها ستكون أول دولة «قاعدية» يعترف بها العالم ويقبل التعامل معها؟
ألاحظ انزعاج الكثيرين من السوريين، وآخرين من الإخوة العرب وكذلك جانب من المصريين المحتفين بسقوط النظام السورى باعتباره الهدف الأكبر بغضّ النظر عن سيناريوهات ما بعد السقوط. الكثير يقال فى هذا الصدد مثل «دعونا نفرح اليوم» و«المؤشرات تدل على قيام دولة تشمل الجميع والدليل مقابلة الجولانى فى محطة سى إن إن الأمريكية». من حق الجميع أن «يشعر» بما يود أن يشعر به، لكن من حق الجميع أيضاً أن يخاف على أوطانه من شرر الحروب ولهيب الميليشيات المسلحة حتى لو كانت ترتدى الأزياء الباريسية وتتحدث بمفردات مطابقة للمواصفات.
نحتاج فى مصر إلى تنقية الشارع المصرى من الموجة السلفية الطاغية بسكون وهدوء، نحتاج إلى توسيع أفق المشهد السياسى الحقيقى ومشاركة المعارضة الفعلية وعودة الإعلام للقيام بدوره الحقيقى وبناء دور الثقافة والفن والمسرح والسينما والرياضة والعلوم الدنيوية. اللهم بلغت، اللهم فاشهد.