«أنا لا أحب الألم».. قلتها ببساطة وأنا أتناول وجبتى بشهية فى ذلك المطعم الصغير الذى أفضّله كثيراً حينما تضطرنى الظروف إلى تناول الطعام خارج المنزل.. أعترف أننى لست ممن يفضّلون حياة المطاعم والكافيتريات وكل هذه الأماكن التى تحولت إلى روتين يومى فى حياة كثيرين. بالطبع لم تكن إجابتى من وجهة نظره ذات علاقة من قريب أو بعيد بسؤاله لى -هذا الإعلامى المصرى الشهير جداً- عن السبب وراء تفضيلى لهذا المطعم تحديداً.. وهو سؤال اعتيادى لأى زائر لبلد ما عندما يأخذه صديق مقيم فى ذات البلد لمكان بعينه دون سواه. قال لى مستغرباً: لم أفهم شيئاً. ضحكت من قلبى، فقد كنت أتوقع جوابه. وقلت له: الموضوع باختصار أننى غالباً ما أتناول طعامى داخل المنزل، وذلك لأنى فيه أعرف تحديداً ماذا آكل وماذا أشرب، أعرف كيف يتم تنظيفه وتحضيره وطهوه، فآكله بشهية وثقة. وهذا المطعم أشبه ببيتى، ولهذا أفضّله. سأخبرك بحكاية صغيرة جمعتنى فى برنامجى الصباحى اليومى بشريكتى الفنانة التركية الشهيرة.. عندما بدأت عامى الثلاثين.. كنا فى استراحة البرنامج فطلبنا زجاجتَى ماء، وعندما أحضروهما قرأتْ هى بدقة ما هو مدوَّن عليها ثم طلبتْ تغييرها بماركة أخرى من المياه.. استغربتُ جداً، فللنوعين نفس السعر ونفس الشهرة.. طبعاً سألتها لأفهم، فقالت لى: «نظرت فقط إلى رقم الـ(ph) المدوَّن عليها.. لا أفضّلها أقل من 7 حتى تكون صحية». وأكملتْ قائلة: «أنا أنتبه جداً إلى كل ما ينزل إلى معدتى يا عزيزتى، وهذا هو سرّ شبابى الدائم».. ثم ضحكتْ وهى تغمزنى بعينها تذكيراً بردّ فعلى عليها عندما أعلمتنى بسنّها الحقيقية فى بداية عملنا معاً. نعم يا صديقى الطيّب، إذا كنا لن نأكل سوى هذا العدد المحدود من الثمرات، ولن نتناول سوى هذه الكمّية المعروفة من الماء، وهذا الكمّ المحدود من الطعام، فلماذا نُجهِد مَعِدَاتنا وأجسادنا بكل هذا الهراء المنزوع الطعم والرائحة الذى يملأ الأماكن لمجرد أنه أصبح «طرز حياة»؟! طالت منى الحكاية فعُدت به إلى جملتى الأولى «أنا لا أحب الألم»، فأنا لست ممن يتحملون الألم المادى أو المعنوى، ووجدت ضالّتى فى هذه الأشياء البسيطة. وبحسبة بسيطة ستجد أنك فى بيتك ستكون مرتاح البال لما ستأكله، وتكون مرتاحاً فى جلستك دون أن تقلقك نظرات الآخرين إليك، وستستمتع بحديث من القلب فى وقت خاص يجمعك بأفراد عائلتك، فلماذا لا أفعله إذن؟! قال لى: «أتعرفين؟ أنا حياتى كلها خارج منزلى تقريباً، الذى تحوّل إلى فندق للمبيت تدريجياً، فأنا أفضّل أن أنام نصف ساعة زيادة -بسبب الإجهاد- على أن أقضيها على مائدة الإفطار. عادة ما يناولنى أحد العاملين فى المطعم المجاور لبيتى (ساندويتش) ألتهمه وأنا أقود سيارتى للعمل صباحاً، والغداء يُحضره لى عامل توصيل الطلبات للمكتب.. ومساءً أقابل الأصدقاء على مائدة محجوزة لنا بشكل دائم على إحدى الكافيتريات الشهيرة.. نأكل فيها ونشرب.. لا أعرف حقاً هل أحب طعامهم أم لا.. هو مجرد واجب يومى للمعدة نؤديه لها حتى لا نشعر بالجوع». نظرت إليه معترضة، فقال: «لا تنظرى إلىّ هكذا، لست وحدى، كلنا الآن كذلك يا عزيزتى». نعم يا صديقى.. تذكّرت كلامك كله وأنا أتجول فى شوارع الإسكندرية والقاهرة فى زيارتى الأخيرة لمصر، تذكّرته مع كل ما رأيته على مقاهيها ومطاعمها. فجميعنا يعلم جيداً أن المعدة بيت الصحة وبيت الداء، ولهذا أنا حقاً أريد أن أعرف لماذا يهون علينا أن ندفعها بأيدينا إلى أن تعترض بعد أن تضج بما نلقيه فيها صباح مساء! نحن لا نهتم حتى بمعرفة مكونات ما نأكله ونشربه، ولا نهتم بمعرفة تاريخ صلاحيته وكأن هذه المعدة تخص شخصاً آخر سوانا! ألسنا مسئولين عن هذا الجسد؟! ألا يستحق أن تتوقف لدقائق لتفكر فيه وفى ما ستلقيه إليه بعد قليل حتى لا يتذمر جوعاً؟! أجِبنى! الماكينة لن تتحمل كثيراً يا عزيزى، ستهلك قريباً أو على الأقل ستتمرد عليك لتدفعك دون إرادتك على أسرّة الفحص لأحد الأطباء، ثم جرعات من هذا وذاك لتنقذ ما يمكن إنقاذه.. أيهما أجدى إذن؟ أنا لا أدعوك إلى أن تهجر هذه الأماكن، ولكن أريدك أن تتذكر معى أنك تستحق أن توازن فى حياتك بين الأشياء. ولا تنسَ أنه لا مفاخرة فى حياة الشارع، ولا سكينة فى هذا الصخب اليومى الزائف الذى وقعت أسيراً لديه. جرّبها الآن واستمتع بالفرق، ولا تنسَ اليوم أن تمر على المتجر فى طريق عودتك إلى البيت. اختَر من الأشياء ما يكفيك فقط من كل ما تحب -ما أجمله طازجاً- واذهب إلى بيتك واستمتع بوجبتك اللذيذة الساخنة التى أعدت خصيصاً من أجلك أنت، استمتع بها مع من سيشاركك الطعام من عائلتك. ألم تشتَق مثلى إلى جلسة صافية معهم؟ تذوق لذَّتها إذن.. فأنت تستحق.