سوف تقوم الدنيا ولا تقعد، لكن تعالوا نقرأ ونفكر معاً، على أن تكون المصلحة هى أساس الحكم بيننا، أينما توجد مصلحة الأمة فثم شرع الله. أخفى الإسلام فى بداياته الأولى فى مكة كثيراً من الأحكام، لم يكن قادراً على التصريح بها، لاستضعافه (فترة الاستضعاف)، حتى إذا ما هاجروا إلى المدينة، وأصبح له ظهير واشتد عوده (فترة الاستقواء) نسخ آيات السلام التى نزلت فى مكة، بآيات السيف التى نزلت فى المدينة وكانت متعارضة فى كثير عن المبادئ الأساسية للدين فى مكة، وما منعه من التصريح بها هو ما قلناه آنفاً. وإليكم أمثلة على ذلك، الآية: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) نسختها الآية: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهناك آيات كثيرة نسخت كانت خاصة بالكفار من أهل مكة على النحو الآتى: (إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ) وآية أخرى (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ) وآية أخرى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) وآية أخرى: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ) نسختها وغيرها الآيات الآتية (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء)، والآية: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).
كثير من المسلمين المعتدلين متمسكون بآيات السلام التى نزلت فى مكة، واعتبروا أن آيات السيف التى نزلت فى المدينة كانت لضرورة وحاجة لتثبيت الدعوة لم يعد هناك حاجة لاستخدامها، ولم يعد الأمر يستدعى قتالاً بيننا وبين الآخر، والكل له الحق فى دينه (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، ونحن مبشرون ومنذرون، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، مَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ»، أما أصحابنا من الجهاديين والتكفيريين والوهابيين بمن فيهم السلفيون، مؤمنون بما جاء بآيات السيف بالمدينة وأن المنسوخ قد توقف العمل به تماماً بأمر من الله، وانتهكوا بالناسخ حقوق الإنسان، وأباحوا قتله وسرقة ماله وسبى نسائه، تحت دعاوى إعلاء كلمة الله، وهذا يجرنا إلى ملاحظات ثلاث هامة، الأولى: أن النسخ (وهو إحلال حكم محل حكم آخر) حسب ما جاء بالقرآن (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)، فالنسخ للمصلحة وللأفضل. فكيف يكون الدين فى ثلاثة وعشرين عاماً، وهى مدة الرسالة فى حاجة لكل هذا النسخ (الحذف)، ثم يتوقف النسخ بعد وفاة النبى ولا تحتاج البشرية نسخاً آخر لمصلحتها كل هذه القرون. ولو كان النسخ لفترة الرسالة فقط، وتوقف بوفاة النبى، فهذا يتعارض تماماً مع تطور حركة الحياة فى كل نواحيها وما يستدعيه الأمر من تعديل ونسخ، وما التقاتل والتناحر بيننا وبين الأديان الأخرى وبعضنا بعضاً الآن، سوى أننا وقفنا عند الناسخ منذ أربعة عشر قرناً. التكفيريون يقتلون بالناسخ، ويقطعون به الرقاب، ويستولون به على حق الغير، ويسبون النساء ويبيعون به الغلمان، وهذا يتعارض مع المصلحة التى هى أساس النسخ وهى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فأين الخير لنا ولخلق الله بين الناسخ والمنسوخ؟
الأمر الثانى: هل تطبيق أحكام الله بما تم نسخه فيه مصلحة الأمة أو ضد مصلحتها؟ هل يهدر الناسخ حق الناس فى الحياة وفى حرية العقيدة أو يحافظ على الأموال والأنفس؟ هل يمكن أن يضمن القانون الوضعى للناس الأمن والأمان على الأنفس والأموال ويهدرها ويدمرها دين من عند الله؟ فإذا كان الله قد نسخ حكماً للضرورة وللمصلحة كما جاء فى القرآن، ولم يعد فى النسخ فائدة أو مغنم أو سلام مع النفس، ومع الغير وأصبحت حياتنا وحياة الآخر مهددة ألا يستوجب الأمر العودة إلى المنسوخ؟ أليس فى العودة إلى القانون الوضعى المحلى والدولى، ما يضمن استمرار الأديان والحفاظ عليها بما فيها ديننا، أن القانون يحافظ على حرية العبادة ويحمى كل العقائد، وهو فى حقيقة الأمر نسخ للناسخ؟
إن حفظ دين الإسلام مرهون بالحفاظ على كل أديان الله، ومحاولة إبادة الأديان تمشياً مع الآية (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ) والآية (ومن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) سوف يضع الإسلام فى صراع مع كل الأديان الأخرى ونحن فيها الخاسرون لا محالة. لن يتركك صاحب بيت أن تهدم بنيانه عليه، أو تحتل داره، وتسرق أمواله، وتبيع نساءه وأولاده. أو تهدم عقيدته التى يراها الحقيقة المطلقة كما تراها أنت.
إن نسخ الناسخ والعودة إلى المنسوخ، واعتبار النسخ أسلوب حياة، يستدعى أن ننسخ ما يتعارض مع مصالحنا، أو ما يضعنا فى خصومه مع العالم، يجعلنا فى مصالحة مع النفس وفى سلام مع جميع خلق الله. وإلا كيف نجيب عن حيرة الناس وتساؤلهم. كيف يحفظ القانون الوضعى حقوق الإنسان وحياة الناس وأموالهم، ويهدرها دين جاء من عند الله؟
هل نسخت مصر حكماً جاء فى القرآن؟ نعم نسخته فى الوصية الغائبة. من فضلك اقرأ هذا التشريع وأعد قراءة ما كتبته ستجد أن غضبك ليس فى محله.
■ أعتذر عن خطأ فى مقال الجمعة الماضى، موقعة الحرة كانت بين يزيد بن معاوية، وعبدالله بن الزبير بن العوام، وليس كما جاء بالمقال بين أبوجعفر المنصور، ومحمد النفس الزكية.