لستُ أدرى إن كانت تلك الواقعةُ الطريفة مقصودةً، أم عفوية غير مرتّبة. إن كانت مقصودةً فقد صنعتْ رسالةً عبقرية غُزِلت دراماها بذكاء وشِعرية وإبداع. وإن كانت عفوَ مصادفةٍ، فقد قدّمتْ بدورها رسالةً قدريةً بليغة، لا تقلّ إبداعاً، عن سابقتها. جالسين كنّا على ضفّة القناة فى ظهيرة يوم افتتاح قناة السويس المهيب، فى السادس من أغسطس الحالى. وكان السيد الرئيس يُلقى كلمته إلى جموع المصريين. وفجأة، مرّت من أمامنا سفينةُ بضائع عملاقة، تشقُّ صفحة المياه الوليدة التى جئنا نحتفل بها فى عرض القناة الجديدة. أطلقتِ السفينةُ أبواقَها صادحةً عالية، كأنما تُقدّم التحيةَ لمصرَ، ولرئيس مصرَ، ولشعبِ مصرَ العظيم. قاطع صوتُ السفينة صوتَ الرئيس فيما يُلقى كلمتَه، فما كان من الرئيس المنضبط الذكى إلا أن صمتَ، وتوقّف عن الكلام، ثم وجّه بصرَه وفؤاده، مثلنا، صوبَ السفينة التى تمرُّ فى هذا الممر الملاحى الجديد لأول مرة فى حياتها. صمتَ الرئيسُ ونحّى الأوراق جانباً وصفّق للسفينة مع المصفقين، فكأنما يردُّ التحية بأحسن منها، كما علّمنا اللهُ.
توقفتُ كثيراً عند هذه الواقعة التى قد يراها البعضُ بسيطةً عابرةً، لكننى وأسرتى، حين تحاورنا حولها، لم نرها بسيطةً ولا عابرةً، بل حاشدةٌ بالرسائل الوجودية المُلهمة. الرسالة تقول إن «صوتَ العمل» يجُبُّ «صوتَ الكلام». العملُ يكسرُ الكلام. وهل نحتاج سوى العمل من أجل الارتقاء بمصر وإعلاء شأنها فى هذه اللحظة الصعبة من تاريخها؟ الرئيس عبدالفتاح السيسى صمت حين تكلمتِ السفينةُ. فكأنما بصمته يقول: «أنا رئيسُ مصر، أحترمُ هذه اللحظة التاريخية التى تمرُّ فيها أول سفينة تجارية فى المجرى الملاحى الجديد. هذه اللحظة هى ناقوس بدء العمل وتشغيل القناة رسميّاً، فوجب معها الصمتُ، لأن الصمتَ فى حرم العملِ.. عملٌ. يتحتمُ الصمتُ عن أى كلام حين يبدأ العمل، حتى وإن كان الكلامُ للرئيس أثناء إلقائه كلمته للعالم وللمصريين فى لحظة تدشين القناة الجديدة.
أنا كشاعرة، تلتقط من الوجود ومن المشاهد ما قد يمرُّ أمام الناس مرور اللاأثر، التقطتُ تلك اللحظة ولم أدعها تمرُّ قبل أن أُشرِّحها على طاولة التأمل والنقد. فوجدتُها زاخرةً بالمعانى الُملهِمَة الجميلة. كان بوسع مُنظّمى الحفل إبلاغ قبطان السفينة أن يؤجل وصول سفينته إلى حيث أمام المنصّة، حتى يُنهى الرئيسُ كلمتَه. وكان بوسع القبطان، وقد وجد الرئيس يتحدث، أن يمرَّ فى صمت فلا يُطلق نفيره الذى قطع كلمة الرئيس. كلا السيناريوهين كانا منطقيين وأكثر قبولاً، لكنهما لم يكونا الأجمل. الأجملُ هو السيناريو الثالث الذى حدث بالفعل. كلٌّ سار فى طريقه يؤدى عمله وفق برنامجه. الرئيس يفتتح القناة الجديدة ويقول كلمته للعالم، وقبطانُ السفينة يقود سفينته فى طريقها لنقل البضائع إلى العالم. فإن تقاطعت اللحظتان، احترم الرئيسُ لحظة العمل وقدّمها على كلمته، وإن كانت تاريخية وينتظرها العالم.
أبهجتنى الواقعة كثيراً، لكنها لم تُدهشنى. فقد قرأتُ شخصيةَ هذا الرجل قبل اللحظة الأولى لتولّيه الرئاسة. حين قال والشعبُ يناديه للترشّح: «لو قبلتُ الترشّح للرئاسة لن تناموا. سنستيقظ فى السادسة صباحاً لنبدأ العمل.» وقبلنا شرطَه الصعب. ولكن ما حدث أنه ألزم نفسَه، وألزم حكومته، بما قال. فبدأ يومَه فى السادسة وجعل الوزراء يذهبون إلى أعمالهم فى السادسة صباحاً. بينما لم نلتزم نحن، للأسف، بالشرط الذى قبلناه راضين مرضيين. فما زلتُ أرى الكسلَ والفوضى والتراخى ينهشُ فى خاصرة مصر. فيا ليتنا لا نقف عند لحظة الفرح بافتتاح قناة السويس الجديدة، بل نعمل بكامل طاقتنا على استكمال مشوار الحلم الصعب والطويل الذى بدأت أولى خطواته الألف، فى هذا اليوم الجميل.
قال الرئيسُ فى كلمته: «سننتصرُ على الإرهاب بالحياة، وعلى الكراهية بالحب»، وأقول لنفسى ولشعب مصر العظيم: «ولن ننتصر على الفوضى والفساد والقمامة والترهّل والكساد، إلا بالعمل». دعونا نصمتُ عن الكلام، كما صمت الرئيس عبدالفتاح السيسى لحظة مرور سفينة البضائع، حتى نسمح لسفينة «العمل» أن تمرّ.