ما زلت أعانى من مشكلة بشأن الرشاوى المالية تحديداً! إنه شعور خفى بالاشمئزاز الشديد ممن يقبلون على أنفسهم بأن يبسطوا أيديهم للغير مقابل تسهيل ما هو صعب دون «المعلوم»، الأمر لا يتعلق بالكبار فقط، بل يبدأ من ذلك العسكرى الذى يقبل جنيهات قليلة ليسمح لسيارتى بالوقوف أمام البنك المكلف بحراسته، ومروراً بالموظف الذى يصر على الحصول على «الحلاوة» كلما أنجزت ورقاً حكومياً لديه أو بواسطته!
ربما كان الموظف البسيط أو رجل المرور وغيرهما من «فقراء هذا المجتمع» يمتلكون دوافعهم التى تجعلهم يبسطون أيديهم للناس اتقاء للفقر والجوع والمرض الذى يفتك بهم وأسرهم، فى ظل تغييب حكومى مزمن و«متعمد» أن ما يحصلون عليه نظير عملهم لا يكفى لسد جوع أسرهم حتى بالخبز الجاف، ولكن الغثيان يبلغ أشده لدىَّ حين أسمع أو أقرأ عن رشوة بالملايين قد دفعت لمن يمتلك مثلها! أذكر منذ سنوات أن سمعت عن رئيس لمجلس إدارة إحدى الشركات الحكومية الكبرى قد تم القبض عليه متلبساً بالحصول على رشوة قدرها نصف مليون جنيه، لم يكن الخبر صادماً لى، إلا حين عرفت أنه يتقاضى راتباً يفوق المائتى ألف جنيه شهرياً! أى إنه قد قرر الغوص فى مستنقع القذارة نظير ما يوازى راتب شهرين فقط! عندها أدركت أن الأمر لا يتعلق بالحاجة أو حتى بالفساد، إنما يتخطاه ليصبح مرضاً!
أعرف أن المال زينة الحياة الدنيا، هذا صحيح، كما أننى لم أكن يوماً من هؤلاء السادة الذين يلهث خلفهم البعض من أجل توقيعهم على بعض الأوراق التى ستجعلهم يكسبون الكثير، كما أعرف جيداً أن الحكم لا يستقيم إلا إذا وُضعت فى اختيار حر أن أقبل رشوة ما أو أرفضها، ولكننى لم أتمكن من التخلص من ذلك الاشمئزاز الذى أشعر به نحوهم!
الطريف أن الذين يبسطون أيديهم دوماً يكونون من تلك النوعية التى تتحدث ليلاً نهاراً عن الشرف ومكافحة الفساد، ولا أعرف السبب تحديداً فى هذا الأمر، هل هو إنكار داخلى لما يفعلونه؟ أم هو نوع من المكر الزائد ومحاولة درء الشبهات عنهم لأنهم يتخيلون أن الكل ينظر إليهم بريبة أو يعرفون عنهم ما يحاولون إخفاءه؟ توجد قصة شهيرة لأحد اللصوص الذى قابل أحد المختلين عقلياً لا يكرر سوى جملة واحدة هى «أعرف ماذا فعلت»، لقد حاول تبرير سرقاته بالفقر أو الحاجة، ولكن الآخر ظل يكرر تلك الجملة حتى خرج اللص عن شعوره وهشم رأسه، وانتهى الأمر أن تحول اللص إلى قاتل، وتحول العقاب من سجن لفترة قصيرة إلى الإعدام!
لقد ضغط هذا المختل على أعصابه حتى انهارت تماماً، وكذلك المرتشى دوماً إنه يؤكد لمن حوله طوال الوقت أنه برىء حتى ولو لم يتهمه أحد بشىء، إنه التوتر والشعور الدائم بالذنب، لهذا فهو ينفجر حتماً فى النهاية مخلفاً إعصاراً من التهم التى تقضى عليه فى الأغلب!
بالأمس القريب تم الإعلان عن مجموعة من القضايا المتعلقة بالفساد المالى، التى تورط فيها عدد لا بأس به من الوزراء ورجال الأعمال، يبدو أنهم اطمأنوا أن الأمر قد عاد كما كان أيام مبارك، ولكن النظام الحالى قد قرر أخيراً أن يثبت لنا أنه يختلف كثيراً، وأن التستر على فساد حتى لاعتبارات تتعلق بالاستقرار لا يعنى سوى التورط فيه.
أعرف أن كثيراً منكم -وأنا معكم- لم يكونوا راضين عن أداء الحكومة فى العديد من الملفات، ولكنها بارقة أمل جيدة أن يتم الكشف عن هذه القضية بوضوح وشفافية، وأن يثبت لنا سيادة الرئيس أن كلمات من عينة أن «لا أحد فوق القانون» ليست جوفاء تماماً، فوزير يتم إجباره على الاستقالة ثم القبض عليه والتحقيق معه، وإقالة الوزارة بالكامل بعدها بأيام قليلة ليست بالأمر الهين حتى فى أكثر الدول تقدماً!
يحسب للنظام حسن صنيعه فى هذا الشأن، وتبقى شفافية التحقيقات وسرعة اتخاذ القرار ضد من أذنب، حتى تعود الثقة إلى أولى الأمر، كما أن قضية بهذا الحجم حتماً ستضغط على أعصاب اللصوص الآخرين، فينفجروا جميعاً، وأتخلص أنا من الغثيان الذى أشعر به.