بدا محمود عباس (أبومازن) كمن ألقى القفاز فى وجه عدوه.. فاجأ الرئيس الفلسطينى الجميع بخطاب مغاير لما اعتدناه منه خلال السنوات الماضية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يلوّح بالذهاب إلى الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية فحسب، بل إن الرسائل كانت أكثر استراتيجية وعمقاً لرجل تبنى خيار السلام والتفاوض منذ عام 1969.
كان «أبومازن» محبطاً كسيراً متألماً بسبب التجاوزات الإسرائيلية المتعددة والتهاون العربى والدولى.. شعر الرجل الثمانينى بأنه أصبح وحيداً فى ساحة مليئة بالذئاب؛ فأعلن للمقربين منه عزمه الرحيل. وبدأت الساحة الفلسطينية والإسرائيلية تستعد لمرحلة ما بعد «أبومازن».. طرح الطامعون أنفسهم لخلافة الرجل الطيب، إلا أن نصيحة صادقة تلقاها من الرئيس عبدالفتاح السيسى دفعته للتراجع خوفاً على القضية الفلسطينية فى هذه المرحلة الدقيقة، الخوف على مستقبل القضية هو ما دفع «أبومازن» لتغيير استراتيجيته وسياسته فى مواجهة تجاوزات إسرائيل.
تنصل الرجل بحنكة سياسية من «أوسلو» وما بعدها، أوسلو التى لم يتبق منها سوى التنسيق الأمنى وعبء الحكم الإدارى والخدماتى. أعاد القرار الفلسطينى لأعلى هيئة قيادية فلسطينية، وكأنه يشير لتهديده السابق بحل السلطة الفلسطينية وتحميل المحتل الإسرائيلى التبعات السياسية والقانونية لذلك.
بدا «أبومازن» وكأنه أقل التزاماً بخيار السلام الذى حمله على عاتقه كخيار استراتيجى على مدار 50 عاماً.. تخلى رجل السلام عن حلمه بعد أن كسرته عنجهية المحتل.. فقد الرجل الحليم حلمه بعدما دنست إسرائيل كل شىء بدءاً من الضفة التى تحولت لكنتونات قطعتها مستعمرات اليهود وحتى الأقصى الذى دنسته أرجل المتعصبين.
شعر الرئيس الفلسطينى للمرة الأولى بأن إسرائيل قررت القطيعة التامة مع النظام السياسى الحالى وذهبت إلى كسر كل الخطوط الحمراء لا سيما الانتهاكات المتكررة للقدس والمسجد الأقصى ومحاولة إحراج القيادة السياسية الفلسطينية وتصويرها بالعاجزة عن القيام بأبسط واجباتها.
أعلن الرئيس صراحةً تحميله مسئولية حماية الشعب الفلسطينى للأمم المتحدة والمجتمع الدولى، وتقدم رسمياً بطلب الحماية الدولية.
وفى ظاهرة تأتى للمرة الأولى أيضاً، انتشر مسلحون ملثمون فى شوارع رام الله ونابلس وجنين، لتقديم أوراق اعتماد المرحلة المقبلة إن ذهبت الأمور للفوضى، الأمر ليس مقاومة احتلال بل إعلان جاهزية وضع لوجيستى جديد، خاصة بعد العنف الشديد الذى علّق به مكتب «نتنياهو» على خطاب أبومازن ووصفه بالكاذب الذى يسعى لإشعال المنطقة، أو «ليبرمان» الذى طالب بالتعامل القاسى مع «عباس».
أوراق اللعبة اختلفت هذه المرة، وبعد 23 عاماً من خيار السلام والمسار السياسى التفاوضى يقرر أكثر الفلسطينيين قناعةً بالحل السلمى أنه لا فائدة من أى مفاوضات مع محتل عنصرى، ويوضح أن الاستمرار فى مجابهة إسرائيل قانونياً فى العالم أجمع هو المحاولة الأخيرة لإنصاف الشعب الفلسطينى وإلا فسيغادر المشهد تاركاً إياه لفراغ تحاول إسرائيل شغله باستيراد رجل على مقاسها، والتجارب الفلسطينية عبر التاريخ تثبت أن الفلسطينيين لا يقبلون «المستورد»، وستكون مرحلة نضال جديد لم ترتسم ملامحها بعد.