فى العادة، وبين الحين والحين، أسافر البلد، والبلد كما تعرفون هى قرية من قرى الدلتا، تلك القرى المنسية على شمال السما، التى لا يذكرها أحد من أهل مصر وحكامها، وتعيش مكتفية كل ليلة بما تشاهده أمام التليفزيون، وتسمعه من هراء يدردب نفسه إلى وعيها!!
نجلس على بحر شبين كفاروة، وعلاونة، وبداروة. ومساعدة، ومن كل ملة، وعائلة، وكل من له مزاج فى الكلام فى السياسة، ومعرفة أحوال بر مصر!!
يأتون إلى الدار، محملين بالأسئلة، باحثين عن إجابة، راغبين فى معرفة ما يدور وسط هذه الغاغة التى يعيش فيها الوطن، لا يستشرف أفقاً للخلاص، ولا نعرف نهاية لما يجرى، والله وحده يعرف كيف تنتهى الأمور.
العم «مطاوع عبدالصبور أبوالعزايم» يجلس صامتاً، يحفه قدر من انشغال البال، وهو الذى كان لا يكف عن الكلام. أنكشه: «مالك يا عم مطاوع؟. ساكت وشايل طاجن ستك؟». يفاجأ ويرد علىّ: «أبداً.. سلامتك»، ويغرق فى صمته!!
أول براد شاى، وتسمع إيقاع رشفات الضيوف، رتيبة ومؤاخية، وعلبة السجاير تخرج، ويا دوب لفة. والنهار على النهر غائم وشمس الشتاء لينة على زرعة القمح، ورزق العيال على صاحب الرزق!!
يقطع الصمت أحدهم: «وهوّ يعنى اللى عمله الرئيس مرسى ده يعجب حد؟!».
يرد آخر: «بقى بعد ثورة نزف الشعب فيها دمه آخرتها ييجى رئيس ويحصن نفسه ضد أفعاله»؟ يرد آخر: «يحصّن قراراته ضد الطعن وضد القضا، لأ، والأكادة يمنع سلطة القضا إنه يهوب ناحية مجلس الشورى أو التأسيسية». يحزق أحدهم، وقد انتفخت عروق رقبته، كان هرماً يثير الرثاء، قادماً من أزمان ولت. أعرف أنه يحمل على كتفيه مظالم زمان عبدالناصر، وزمان السادات، وزمان آخر الطغاة حسنى مبارك يصيح بصوت مخنوق قائلاً: «ولا حكاية التأسيسية، ودى كمان أيام وشهور تعدى ولا باين لها بر.. لا اتفاق ولا هدنة.. وناس تستقيل وناس تدخل.. وكل ليلة يقطعوا فى هدوم بعض على التليفزيون لما بقت جرسة، ومع ذلك مافيش اتفاق. الإخوان يا دينية يا بلاش.. والجماعة بتوع العدالة الاجتماعية يا مدنية يا بلاش.. واحنا ولا مؤاخذة مش فاهمين حاجة!!»، يصيح فى وجوه الخلق: «ألف رحمة عليك يا مصطفى باشا يا نحاس.. كان أى دستور مايخدش فى إيده غلوة: تعالى يا سنهورى اعمل دستور. يشتغل السنهورى ليلتين ولا تلاتة خلص الدستور. دستور عادل وعارف مصالح الناس». يصمت الرجل ويقاوم عواطفه، ويضيف: «يرحمها أيام ويرحم رجالتها».
صمت، ولا أتكلم. أستمع وأتأمل الوجوه التى أعرفها من عشرات السنين. وجوه عاشت القسمة غير العادلة طوال تاريخها، ورضيت بالقيراط الخامس والعشرين ومكانه جنة الخلد!!
تضع بنت الأخ على الأرض براد الشاى، والأكواب المغسولة، والصفطى وهو يصب الشاى يصرخ: «طلاق بالتلاتة من مراتى كل ما تحل تحرم ان الرئيس مرسى دهوت ها يعملها حرب أهلية والدم هيبقى للركب وبكرة تشوفى يا بلد لما التنظيم السرى يخرج عليكى من تحت الأرض».
تدهشنى كلمات «الصفطى»، وأنا من أرادونى أن أتكلم.. أنا أصغى الآن لهم.
لهؤلاء الذين لم يفرطوا فى شىء، وظلوا على أحلامهم ورغبتهم فى السعى ناحية عدل وستر!! أغيب عنهم، وأحدق متأملاً الرئيس مرسى يقف وسط ميدان جماعته مصراً على تطبيق إعلانه الدستورى، مهدداً القلة الخارجة بالتمام والكمال مثل حكام زمان. لا شىء تغير. ولأهل مصر صلات خارجية، وهم مأجورون وبلطجية، وأنه سيكون لهم بالمرصاد.. تتجمد الصورة على ما فات وكأن لا كانت ثورة ولا يحزنون!! تأتينى أصواتهم، وقد أقاموا حلقة من الأسئلة.. مرسى يعلن الحرب على الناس.. وإيه حكاية محيط السفارة الأمريكية دى؟.. بيقولوا جماعة من الجيش بتدعم مظاهرات المعارضة؟.. باقول لك إيه خلى الجيش بعيد.. خليه فى اللى هو فيه!!
والبلد ميادين، وزحمة.. وأزمة فى العيش والسولار والوظائف والميزانية، والمرور، والسياسية الخارجية، والداخلية، وفى الفنون والآداب، ومصر الوطن طائفتان.. طائفة أهل دين.. وطائفة أهل علم.. ورائحة كريهة تهب من كل الأنحاء.. واللحى تسد عين الشمس.. ومصر ترقص على صفيح ساخن.
وعم.. «مطاوع عب الصبور أبوالعزايم» يكمن هناك، قرب الماء، صامتاً، وحزيناً، وحين سألته «مالك يا راجل؟» همّ على ركبته وأجابنى: «اللى محيرنى فى الموضوع كله إنى نفسى أفهم لما الرئيس مرسى بيخطب بيقول إيه؟!»