للسينما دور مهم فى بناء المجتمعات، لا يقتصر أبداً على الشق الترفيهى الترويحى، بل يمتد إلى التنوير والتثقيف، كذلك تكون السينما مرآة وانعكاساً لواقع المجتمع وثقافته. وعلى مر السنين وبحسب التطورات المجتمعية والسياسية تغيرت موضوعات السينما ونوع ثقافاتها وثقافة القائمين عليها كتّاباً أو أبطالاً أو حتى جمهوراً، فكانت البدايات الثقافية السينمائية منذ العشرينات إلى الأربعينات تحمل على شاشاتها انعكاس الواقع المجتمعى المصرى بطبقاته المتباينة (الباشا والمزارع، الفقر الشديد والثراء الفاحش، الإقطاعية والعبودية) فخرجت الأفلام بين رومانسى حالم يحكى قصة حب بين بنت الباشا وابن الجناينى وبحكايا مأخوذة عن قصص من الأدب العالمى جرى تمصيرها، أو عن روايات لكتّاب مصريين كبار، وأيضاً كانت حاضرة بنفس الفترة الأعمال الكوميدية الساخرة (فى أفلام الريحانى)، تسخر فى ألم من واقع طبقى سياسى ينتقد الفجوة المجتمعية فى مفارقات كوميدية موجعة، أو فى صورة مهازل مضحكة فى أفلام «الكسار». فى تلك الفترة كانت ثقافة السينما غنية راقية بملامح العصر الملكى الأنيق، موسيقى وفن وأدب راقٍ، فامتاز أبطال تلك الحقبة بذات الصفات، فكانت بذلك من أثرى فترات الانسجام بين السينمائيين والأدباء، وترجم هذا المعنى بالعلاقات الوطيدة آنذاك بين الفنانين وكبار الكتّاب والشعراء، وكثرت الصالونات الأدبية ومجالس الغناء والطرب والثقافة فى صالون «العقاد» ومحمد عبدالوهاب وغيرهما من التجمعات فتأثرت السينما بهذا الاندماج الراقى.
ثم جاءت مرحلة أواخر الأربعينات وأحداثها السياسية المتلاحقة كحرب فلسطين والحرب العالمية الثانية لتنتج شكلاً آخر من الثقافة السينمائية ينعكس به وعليه الواقع السياسى والمجتمعى من محاربة الاحتلال الإنجليزى وكثرة الاغتيالات ومحاربة الفساد وظهور النقابات، وبداية بزوغ ملامح الثورة (يوليو)، فكان بذلك بداية الحراك السياسى والتجهيز له واستمرت السينما بأفلام تعبر عن هذه المعانى، واستمر الحال على ذاك المنوال إلى أوائل الخمسينات بقيام الثورة فعلياً، وهنا تحولت جميع أفلام السينما إلى ملاحم تمجد قيام الثورة وأبطالها نافضة عن ثورتها أى معنى للانقلاب، وسريعاً ترك الضباط ثكناتهم العسكرية على غرار دعوة إحسان عبدالقدوس والمجتمع لهم وانخرطوا بالحياة المدنية حتى وصل الأمر أن التحق ضباط من الجيش والشرطة بالتمثيل وتفرغوا له كـ(أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار)، فقد عشق الجمهور حينها الزِّى العسكرى ورجاله.
مرت مرحلة الخمسينات إلى الستينات والتى كانت مرحلة واعدة باسمة تترجم لثورة صناعية اشتراكية وظهر أبطال الأفلام بين مهندسين فى السد العالى أو موظف مهم أو كاتب كبير، فى رسالة إلى أن الوضع مستقر والغد واعد والعدل، فالكل مهم، ذو مركز مرموق، وانعكس هذا على السينما، وكان دائماً الأدب حاضراً بمعانٍ مشابهة فى كتابات «محفوظ» وغيره إلى أن جاءت أواخر الستينات بكارثة.
نكسة ٦٧ وما تبعها من إحباط وتشاؤم وتهدم الشخصية المصرية وغضبها العارم، وهذه المرة أيضاً تشربت الثقافة والمثقفون والسينما تبعات الأزمة، ولكنها وللحق كانت من أغنى وأثرى الفترات على الصعيدين الثقافى والسياسى، تأثرت السينما وأبطالها بالحركات الاشتراكية وتطورها الشيوعى ونظريات التحرر الثورية الغاضبة وازداد الوعى الثقافى والمعلوماتى حتى انعكس هذا على نجوم السينما فكانوا من أكثر الأجيال قراءة واطلاعاً وتنظيراً وربما لم يتكرر هذا الأمر إلى الآن، وكان من أبرزهم نور الشريف ومحمود يس وحسين فهمى وغيرهم.
ومن منتصف السبعينات إلى منتصف التسعينات غلبت على ثقافة السينما ثقافة المواطن المهمش ضحية الواقع الاجتماعى المنهك والوضع الاقتصادى المتأزم، وتجلى هذا فى أفلام عادل إمام، وبأفلامه دعا إلى محاربة الفساد بطريقة أكثر مسالمة وسخرية وأقل غضباً من مرحلة السبعينات المتمردة، ثم انطلق بمصاحبة كاتب عظيم كوحيد حامد فى محاربة الإرهاب ودحر طيور الظلام وتنبيه المجتمع من خطرهم على الدين والثقافة والمجتمع حاملين نوعاً جديداً من الثقافة التنويرية المجتمعية. وبين الأمس بتطوراته المتعاقبة وبين اليوم شبه الخالى من الثقافة سواء على الصعيد المجتمعى أو السينمائى، فنحن أمام أزمة حقيقية، أزمة ثقافة مجتمع، حيث تخلت الجهات الثقافية عن مسئولياتها بل وتلاشت تاركة الجمهور لمجموعة كتّاب وكتابات سينمائية متواضعة المحتوى ولأبطال معظمهم غير قارئ، لكن ماذا بشأن الغد وجيل الغد! وسينما الغد وثقافة الغد؟!