فعل الرئيس خيراً حين تطرق إلى موضوع سد النهضة، على هامش إطلاق مشروع الـ1.5 مليون فدان، وعالج قلق المصريين حول هذا الموضوع، وطمأنهم بأنه «لم يضيعهم فيما سبق لكى يضيعهم تانى». كلام طيب، حبذا لو كان مشفوعاً بتصور واضح -دون خوض فى تفاصيل تتعلق بخطط الدولة- عن الإجراءات التى سوف تتخذها مصر، والسيناريوهات التى ستعتمد عليها فى التعامل مع تعنت إثيوبيا، واستمرارها فى بناء السد، رغم عدم حسم الكثير من المسائل العالقة بينها وبين مصر. تصور يعكس «تعامل دولة» مع ملف يتعلق بالأمن القومى، ويشكل بالنسبة للمصريين قضية حياة أو موت، كما وصف الرئيس.
الرئيس لن يضيعنا.. مؤكد أننا نصدق ذلك كل التصديق، ونثق فى أن «السيسى» حريص على المصريين، ورغم ما يمنحه هذا الكلام لمن يستمع إليه من اطمئنان، فإن ذلك لا ينفى ضرورة أن نفهم الكيفية التى ستتعامل بها مؤسسات الدولة المعنية مع هذا الملف، حتى لا يفهم البعض أن مصيره معلق فقط بيد الرئيس. لأن فى هذه الطريقة للإدارة تضييعاً للمؤسسات المعنية بالملف (يضاف إلى ما تعانيه من ضياع). بإمكانى أن أتفهم حالة التردى التى وصلت إليها مؤسسات الدولة، لكن تعليق كل الأمور بيد الرئيس لا يخدم المستقبل، ربما أدى إلى حل بعض المشكلات فى اللحظة المعيشة، لكنه يقدم مؤسسات تائهة وغير قادرة على الفعل بعد حين.
وقد تجلت آثار هذا النمط من الأداء فى مواقف عديدة خلال رحلة مفاوضات سد النهضة. فإثيوبيا لم تكترث كثيراً باتفاق المبادئ الذى وقعه زعماء الدول الثلاث فى الخرطوم (مارس 2015)، وواصلت بناء السد بهمة ونشاط خلال الفترة التى أعقبت التوقيع على الاتفاق، ضاربة بكل المفاوضات واللقاءات الثلاثية والسداسية عرض الحائط. وأخشى أن أقول إن أداء ممثلى مصر فى هذه المفاوضات لم يكن أداء رجال دولة بالمعنى الحقيقى للكلمة، بل أدوا وعينهم على الرئيس، وهم بالطبع غير ملومين على ذلك، فمن الطبيعى أن يعملوا طبقاً لتوجيهات الرئيس، وقد يكون الرئيس معذوراً هو الآخر فى الاعتماد على ذاته، بسبب حالة التردى التى أصابت الكثير من مؤسسات الدولة، لكن ذلك لا يعنى بحال عدم منح المسئولين بها الفرصة للعمل فى الملفات التى تعنيهم، على أساس أنهم الأوعى بها. ومن الضرورى الوعى بأن تطوير هذه المؤسسات جزء من الإصلاح وصناعة المستقبل.
بصفة عامة أجد أن الاطمئنان الحقيقى للمصريين لن يتحقق إلا عندما تمتثل إثيوبيا لأمرين، أولهما وقف البناء فى سد النهضة لحين تسوية المسائل العالقة بينها وبيننا، وثانيهما ضمان الحصة التاريخية لمصر فى مياه النيل. هذان هما العاملان اللذان سيسبغان الطمأنينة على المصريين. لقد تلاعبت إثيوبيا بالمفاوضين المصريين، وماطلت وراوغت، كما شاءت، وشاء لها الهوى، الأمر الذى أثار قلق المصريين حول النتائج التى يمكن أن تترتب على أى مفاوضات معها، وبدأ كثيرون يشعرون أننا أمام أزمة خطيرة تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. حالة القلق تلك التقطها الرئيس، وتعامل معها فى كلمته الأخيرة وحاول طمأنة الشعب، ولكن يبقى أنه إذا كانت الطمأنة بالكلام أمراً جيداً، فالطمأنة بالأفعال أجود.