طالعتنا صحيفة «الوطن» يوم الأربعاء الماضى، بعرض ملف عن سد النهضة فى ثلاث صفحات كاملة، الصفحة الأولى تعرض مقالاً للأستاذ مكرم محمد أحمد، والصفحتان الأخريان تعرضان ترجمة لتوصيات «ندوة أمريكية عن السد» نظّمها أحد مراكز بحوث معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا (MIT) العريق بالولايات المتحدة الأمريكية خلال نوفمبر 2014 وبحضور 17 خبيراً من أمريكا وأوروبا وأفريقيا واستراليا وغيرها. وكانت الندوة قد خرجت بتوصيات على شكل ورقة عمل تم نشرها على الموقع الإلكترونى للمعهد، وهذه التوصيات لا تمثل وجهة نظر (MIT)، ولكن تمثل فقط وجهة نظر الحضور. وجاء فى مقدمة ورقة العمل، أن الحضور أجمعوا على حق إثيوبيا فى تنمية مواردها المائية لتحقيق الرفاهية لمواطنيها، وعلى مزايا تخزين المياه فى الهضبة الإثيوبية، وعلى الجدوى الاقتصادية لتوليد الطاقة الكهرومائية على النيل الأزرق، وبما ذكرنى بالمثل العربى «أول القصيدة كفر». أما مقال الأستاذ مكرم محمد أحمد فكان عنوانه «سد النهضة: مخاطر مؤكدة ومكاسب محتملة» واستعرض فيه بأسلوبه الرشيق النقاط الرئيسية لتوصيات هذه الندوة، وبذكائه المعهود تجنب طرح رأيه الشخصى وترك ذلك للقراء. ولكن ما يثير الدهشة هو تسريب ترجمة عربية جاهزة لورقة العمل، وتخصيص ثلاث صفحات كاملة لها فى صحيفة «الوطن»، وتجميل التقرير بمقال لواحد من أبرز الكتاب السياسيين فى مصر، بالرغم من أن الندوة مر عليها 15 شهراً. وقد جال بخاطرى من منطلق سوء الظن وربنا يسامحنى، أن هناك محاولة من بعض كبار المسئولين لتسويق توصيات هذه الندوة تمهيداً لمزيد من التنازلات الإضافية فى مباحثات سد النهضة.
إن هذه الندوة فى رأيى، تدور فى إطار يتعارض بشكل صريح مع مصالح مصر المائية والاستراتيجية. وقبل أن أتطرق لمحتويات ورقة العمل، أود أن أوضح أنه ليس لى موقف سلبى من هذا المعهد الأمريكى العريق (MIT)، وذلك لسبب بسيط أننى أحد خريجيه فقد حصلت منه على درجتى الماجستير والدكتوراه فى تخطيط وإدارة الموارد المائية عامى 1980 و1982. وتوصيات هذه الندوة لمن لا يعلم، لا تخرج عن مبادرة الإدارة الأمريكية للتعامل مع أزمة سد النهضة التى سبق أن أرسلتها مع مندوبيها عدة مرات إلى مصر للتفاوض حولها. وتتكون المبادرة الأمريكية من اعتراف مصر بسعة السد الإثيوبى، ثم التفاوض مع إثيوبيا حول سنوات ملء السد وسياسات تشغيله، مع تعهد مصر بشراء الجزء الأكبر من كهرباء السد. وقد يتفاجأ البعض بأن المبادرة الأمريكية تتطابق بشكل ملحوظ مع صياغة وثيقة إعلان المبادئ التى وقعها رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا فى مارس 2015، وذلك باستثناء عدم تعهد مصر بشراء كهرباء السد. فهل التنازل المصرى المقبل هو التعهد بشراء كهرباء السد؟ إن صحت هذه الفرضية السخيفة فإن مصر ستكون قد سلمت إثيوبيا كل مفاتيح التحكم فى مقاديرنا.
الندوة الأمريكية لم تتطرق إلى حقيقة أن سد النهضة سوف يقلل من حصة مصر المائية وتداعيات ذلك على بوار مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية، وتهديد الثروة السمكية، وانخفاض منسوب المياه فى النيل مما يؤدى إلى انكشاف مأخذ محطات مياه الشرب والمصانع على ضفاف النيل، ويؤثر سلباً على النقل النهرى والسياحة النيلية، ويسبب عجزاً كبيراً فى كهرباء السد العالى وخزان أسوان وقناطر إسنا وقناطر نجح حمادى، ويتسبب فى زيادة تداخل مياه البحر فى منطقة الدلتا وتآكل شواطئها. بل وجهت الندوة اتهاماً صريحاً لمصر بأنها تستخدم ما يزيد على حصتها المائية السنوية وبما يقدر بحوالى 60-65 مليار متر مكعب (بدلاً من 55.5 مليار متر مكعب)، مستأثرة بالجزء الذى لا تستخدمه السودان من حصتها وأيضاً لاستغلالها زيادة زعمتها الندوة فى إيراد النهر حدثت خلال العقود الماضية. لقد حولت الندوة مصر من مجنى عليها فى قضية سد النهضة إلى جانية تستولى على مياه أكثر من حصتها. وذكرت ورقة العمل بالندوة أن سد النهضة سوف يشجع السودان على التوسع زراعياً واستغلال كامل حصته المائية بل وكذلك استغلال الزيادة فى إيراد النهر، مما يحرم مصر من هذه المياه الإضافية. واستطردت ورقة العمل أن حرمان مصر من هذه المياه الإضافية سيقلل من مقننات الرى فى منطقة الدلتا وستزداد ملوحة الأراضى الزراعية هناك، وفى ذلك اختزال مخل لتداعيات سد النهضة على مصر.
وبدلاً من مطالبة الندوة لإثيوبيا بالالتزام بسياسة تشغيل لسد النهضة تقلل من أضراره على مصر، طالبت الندوة كلاً من مصر وإثيوبيا بالاتفاق معاً حول سياسات تشغيل لسد النهضة والسد العالى، وكأن مصر هى التى طالبت ببناء سد النهضة. وتبنت الندوة المزاعم الإثيوبية الخاطئة بأن تخزين المياه أمام سد النهضة سيقلل من إجمالى فواقد البخر الإجمالية من السد العالى وسد النهضة والسدود السودانية ويزيد إيراد نهر النيل. وتطرقت الندوة إلى أهمية بيع الكهرباء الإثيوبية لمصر، وكأن مصر ملزمة بنجاح سد النهضة. وإذا لم توافق مصر على استيراد الكهرباء الإثيوبية، فقد نبهت الندوة أنه قد تتوقف توربينات السد، وبالتالى لن تمرر المياه الكافية لمصر. وتحدثت ورقة العمل عن أهمية زيادة عدد فتحات السد، ولكن إثيوبيا رفضت ذلك رسمياً عندما طالبت بها مصر. وتحدثت أيضاً عن بعض المخاطر الإنشائية التى قد يتعرض لها السد الركامى المساعد للنهضة. من ناحية أخرى كانت لوزارة الرى المصرية ملاحظات لاذعة على توصيات هذه الندوة، وقدمتها فى مذكرة رسمية من 13 صفحة إلى مقرر الندوة وتم نشرها على الموقع الإلكترونى لمعهد ماساتشوستش للتكنولوجيا.
إن وزارة الرى المصرية ترى أن مناقشات الندوة لم تستند إلى حقائق فنية أو دراسات علمية، بل اعتمدت على تصريحات ومواقف سياسية، وأن الندوة لم تتطرق إلى أن السد تم إنشاؤه على نهر دولى، وضرورة التزام إثيوبيا بقواعد القانون الدولى الذى يلزمها بالحصول على موافقة دولتى المصب على إنشاء السد وعلى سياسات تشغيله. وانتقدت الوزارة تبنى الندوة وجهة النظر الإثيوبية حول سعة السد وأبعاده الهندسية، ودون استعراض الأضرار الواقعة على دولتى المصب من هذه السعة الضخمة غير المبررة. وعبرت وزارة الرى عن استيائها لعدم مناقشة الندوة للمخاطر الإنشائية لسد النهضة نفسه، والجدوى الاقتصادية للسد بكفاءته المتدنية فى توليد الكهرباء، والسدود الأخرى التى تزمع إثيوبيا إنشاءها على النيل الأزرق وتأثيرها الضخم مع سد النهضة على دولتى المصب. ورفضت الوزارة ما جاء فى ورقة عمل الندوة بأن السد العالى قادر على استيعاب آثار سد النهضة المائية على مصر، وذكرت أن آثار سد النهضة ستكون وخيمة على مصر أثناء سنوات الملء وأيضاً أثناء سنوات الجفاف. هذا هو رأيى وهذا هو رأى وزارة الرى المصرية، فهل هناك ما زال من يحاول تسويق هذه الندوة وشراء مصر لكهرباء سد النهضة؟!